الاثنين، 10 سبتمبر 2012

أم عبدالله..




بقلم: علي المسعودي
  


  
.. و"أم عبدالله" هي أمي الغالية، العالية.

 وأنا.. أقـبّـل التراب الذي وطأته تلك القدمان.. الطاهرتان.

انتقلت إلى رحمة الله منذ سنين طويلة.. لكنها بقيت حيّة، حييّة، بهيّة، ونقيّة.. في كل القلوب النقية الوفيّة.
أحبّ التعطـّـر بزكي سيرتها، والتطهر بنفحات علمها، واستذكار جميل أحاديثها، والتحبب إلى ربي بإفشاء خُلقها، وكرمها ونورها إلى الناس.. وفي تتبـّـع خطواتها والسير على نهجها القويم.
فقيهة ..  وبها يكتمل الدين..
مشرقة الوجه تكسوه حمرة ربانية..
جميلة المحيا.. باهرة الطلة، ظريفة الخلق، صادقة الحديث، ناصعة الثوب، لها من الدعابة والطرافة والبديهة الحاضرة ما يأخذ بالألباب.
أحبها، ولها في القلب إجلال، وأغار عليها، وأفديها بروحي ودمي ومالي وعرضي.
تزوجت أكرم الناس في حداثة سنّها.. فرشدت وأرشدت.
لها عقل حصيف، عرف رجاحته جميع من حولها، حتى أصبح القادة والعلماء  يستشيرونها في شؤونهم الصغيرة والكبيرة.
تعلمتُ منها كيف أعرف أسرار الحياة، وكيف أسير فيها، وقليل من علمها الغزير علـّمني الكثير.
 عرفت من سلوكها قول الحق..
ومن سيرتها تعلمت أن الصدق يغيظ بعض القلوب.. وأن أهل الزيغ يكرهون أهل الحق، وأن أهل الهوى يحاولون دوما تلطيخ ذوي المروءات.. أو تشويه وجوههم .. (وأنّى للوضاءة أن تتشوّه؟!).
يشتمها البعض ولا يدري أنه بجهله يشتم نفسه لأنه كمن يرفع طرفه فيبصق على السماء، فترتد بصقته على وجهه.. لتظل السماء هي السماء ناصعة الوجه براقة المحيا. (ونسأل الله لمن يفعل ذلك الهداية)
و"أم عبدالله" مثل السماء.. كريمة، صافية.. وصادقة.. إن أثقلها غيم الرحمات أهدته إلى الأراضي البور.. لتحييها وتسقي أهلها.
أم عبدالله امرأة نادرة شهد لها التاريخ .. فأصبحت من رموزه.
أم عبدالله ليست الجنة تحت قدميها فحسب، فمحبتها هي الجنة، وعلمها هو الجنة،  والدفاع عنها هو الجنة.
ولا أدري ما الذي يدفع أهل الزيغ كي يؤذون أحبتها في محبتها.. وأي عبادة يتعبدها من يجعل من عبادته وسيلة طعن ولعن وتجن؟ (أدعو الله أن ينير بصائرهم ليروا الحق حقا فيتبعوه)..
قالت عندما سمعت بمكرهم وإفكهم: أقول كما قال أبو يوسف ( فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون).. أوكلت أمرها إلى الله.. (وكانت تظن أنها أقل شأنا من أن ينزل فيها قرآن يتلى)  فنزل جبريل ينقل بشارة السماء إلى الأرض .. يحمل النور في سورة النور.. (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم)، والذي تولى كبره هو رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول.. وقد  قضى وراح،  لكن له تلاميذ  ساروا على نهج نفاقه:  حملوا غيظه وبغضه ووسيلته في طعن الأعراض (عسى الله أن يعيدهم إلى جادة الصواب).
وسبحان الذي وسع بعلمه أن هذه النفوس الدنيئة ستتواصل في غيها، لذلك جعل براءتها قرآنا يتلى إلى يوم الدين في.. (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) وكثير من تلك العصبةنالوا جزاءهم و استغفروا واهتدوا.. لكن مابال هذه العصبة اليوم لاتؤمن بأن الله قال (وأزواجه أمهاتهم)..!
 هن أمهاتنا، وهو عليه السلام أولى بنا من أنفسنا.. فكيف يتجرأ أولئك الذي يطعنون في عرض أكرم الخلق كي يطعنوا في رسالته. (اللهم اشرح صدورهم لدينك الحق)
أم عبدالله، ابنة الحسب والنسب،.. عائشة بنت أبي بكر،  الصديقة بنت الصديق.. العفيفة، كريمة الخلق، زكية العلم، أحب نساء رسول الله إلى رسول الله. كان يخاطبها: (ياصدّيقه يا بنت الصديق) يحب غيرتها، يحب حديثها.
 فارق الحياة وهو بين سحرها ونحرها.. ودفن في حجرتها.. حجرة الشرف والعزة والعفة.
.. الحجرة التي هي الآن جزء من المسجد النبوي الشريف.. والشرف لا يسكن فيه إلا الشرف..
وعندما يكرمك الله بزيارة مسجد نبيه الكريم في المدينة.. أنصحك أن تسأل عن أسطوانة عائشة في المسجد.. قف أمام تلك الاسطوانة وصلّ ركعتين.. لأنك عندما تسجد تكون جبهتك قد لامست مكان جبهة النبي الطاهرة.. ففي هذا المكان تماما كان يسجد.
وعندما تقف أمام قبر النبي عليه السلام.. وأنت تسلم عليه.. تذكّر أنك تقف أمام حجرة عائشة..
لقد اختار الله أن يكون في بيتها إلى يوم يبعثون..
أي شرف طالته يدك المتوضأة يأامنا المصون الحصان الرزان.. وأي خزي وعار ولغ فيه كل أولئك الذين يطعنون في عرضك، والله سبحانه اختار قلبك سكنا لنبيّه، وصدرك آخر مااستند عليه.. وحجرتك مثوى لجسده الشريف..  
وبينما نتعبد بتلاوة براءتك.. هناك من يتعبد بطعن شرفك. .. (ألا قاتلهم الله).
 ...
كان رسول الله في يوم يصلي بنعله ولم يعلم أن فيه قذَراً فنزل جبريل يخبره، فنزع رسول الله النعل.. بسرعة.

سبحان الله الذي  لم يرض لرسوله نجاسة في نعل.. فهل يرضى له نجاسة في أهل؟.
حاشا لله وحاشا رسوله العيب والنقصان.
ومن فضائل  العرب أنها لا تطعن في أكارم أهلها..
 بل من عادة العرب أن تستر معايب عوام الناس فكيف برؤوسهم..؟
 فما بال أقوام أخذوا يرمون المؤمنات الغافلات؟ (اللهم اقذف في قلوبهم الخوف والرعب والهلع)
ولن يبلغوا ضرها.. لأن (الله يدافع عن الذين آمنوا)..

قدم عمرو بن العاص رضي الله عنهما إلى رسول الله عليه السلام وسأله:(أي الناس أحب إليك يا رسول الله ؟ قال : عائشة قال : فمن : الرجال ؟ قال : أبوها.
هي عائشة زوجة الصادق المصدوق وابنة الصديق.. وهي حببية الحبيب.

عليك منّا السلام يا أمنا.. إلى أن يجمعنا الله بك عند حوض نبيه..







قصيدة ابن بهيج الأندلسي في مدح السيدة عائشة رضي الله عنها.. من أجمل قصائد الثناء.. بكلمات شفيفة لطيفة لها حفيف في القلب ورفيف في الروح..



ماشان أم المؤمــــنين وشـــــاني

هدي المحـــب لها وضل الشاني



إني أقول مبيــــــنا عن فضـــــــلها 

ومترجما عن قولها بلساني

يـا مُبْغِضِـي لا تَـأتِ قَبْـرَ مُحَمَّـدٍ 

فالبَيْـتُ بَيْتـي والمَـكـانُ مَكـانـي 

إِنِّـي خُصِصْـتُ علـى نِسـاءِ مُحَمَّـدٍ 

بِصِفـاتِ بِـرٍّ تَحْتَـهُـنَّ مَعـانـي

وَسَبَقْتُهُـنَّ إلـى الفَضَائِـلِ كُلِّهـــا 

فالسَّبـقُ سَبقـي والعِنَـانُ عِنَـانـي

مَرِضَ النَّبِــيُّ وماتَ بيـنَ تَرَائِبـي 

فالْيَـوْم يَوْمـي والزَّمـانُ زَمانـي

زَوْجــي رَسـولُ اللهِ لَـمْ أَرَ غَـيْـرَهُ 

اللهُ زَوَّجـنــي بـــهِ وحَـبَـانـي
وأتـاه جبريـل الأميـن بصورتـي 

فأحبنـي المخـتـار حـيـن رآنــي
أنـا بِكْـرُهُ العَـذْراءُ عِنْـدي سِـرُّهُ 

وضَجيـعُـهُ فــي مَنْـزلـي قَـمَـرانِ

وتَكـلـم اللهُ العظـيـمُ بحُـجَّـتـي

وبَـرَاءَتِـي فـي مُـحـكـمِ الـقُـرآنِ 

واللهُ خفَّـرَنـي وعَـظَّـمَ حُـرْمَـتـي 

وعـلى لِـسَـانِ نـبِـيِّـهِ بَـرَّانـي 

والله فـي القـرآن قـد لعـن الــذي 

بـعد الـبـراءة بالقبـيـح رمانـي
واللهُ وبَّــخَ مــنْ أراد تَنقُّـصـي

إفْـكاً وسَـبَّحَ نفـسـهُ في شـاني 
إنـي لَمُحْصَنـةُ الإزارِ بَرِيئَـــــةٌ و 

دلـيـلُ حُـسنِ طَهـارتي إحْصـاني
واللهُ أحصـنَـنـي بـخـاتِـمِ رُسْـلِــهِ 

وأذلَّ أهـــلَ الإفْـــكِ والبُـهـتـانِ 
وسَمِعْـتُ وَحـيَ الله عِنـدَ مُحمــــدٍ

مــن جِبْرَئـيـلَ ونُــورُه يَغْشـانـي
أَوْحـى إلـيـهِ وكُـنـتُ تَـحـتَ ثِيـابِـهِ

فَحَـنـى عـلـيَّ بِثَـوْبـهِ خبَّـانـي 
مَـنْ ذا يُفاخِرُنـي وينْكِـرُ صُحبتـي

ومُحَمَّـدٌ فــي حِـجْـره رَبَّـانـي؟ 
وأخذتُ عـن أبـويَّ ديـنَ محمـدٍ 

وهُمـا علـى الإسـلامِ مُصطَحِبـانِ 
وأبـي أقـامَ الدِّيـن بَعْـدَ مُحمـدٍ 

فالنَّصْـلُ نصلـي والسِّنـان سِنـانـي 
والفَخرُ فخـري والخلافـةُ فـي أبـي 

حَسبـي بهـذا مَفْخَـراً وكَفانـي
وأنـا ابْنَـةُ الصِّديـقِ صاحـبِ أحمـدٍ 

وحَبيبِـهِ فـي السِّـرِّ والإعـلانِ
نـصـرَ النـبـيَّ بمـالـهِ وفِعـالـه

وخُـروجـهِ مَـعْـهُ مـن الأوطـانِ
ثانيـه فـي الغـارِِ الـذي سَـدَّ الكُـوَى

بِردائـهِ أكــرِم بِــهِ مــنْ ثــانِ
وجفـا الغِـنـى حـتـى تَخـلـل بالعـبـا 

زُهــداُ وأذعــنَ أيَّـمـا إذعــانِ
وتخلـلـتْ مَـعَـهُ ملائـكـةُ السـمـا

وأتـتـهُ بُـشـرى اللهِ بالـرضـوانِ
وهو الـذي لـم يخـشَ لَومـةَ لائـمٍ

فـي قتـلِ أهـلِ البَغْـيِ والعُـدوانِ
قتـلَ الأُلـى مَنَعـوا الزكـاة بكُفْرهم 

وأذلَّ أهــلَ الكُـفـر والطُّغـيـانِ
سَــبقَ الصَّحابةَ والقَرابةَ للهــــدى

هو شَيْــخُهُم في الفضلِ والإحسانِِ
واللهِ مـا استبَقُـوا لنيـلِ فضيلـةٍ 

مَثـلَ استبـاقِ الخيـل يـومَ رِهـانِِ
إلا وطـــارَ أبــي إلـى عليـائِـهـا 

فمـكانُـه مـنـها أجـلُّ مـكـانِِ
ويـــلٌ لِـعـبـدٍ خـانَ آلَ مُـحـمـدٍ

بــعَداوةِ الأزواجِ والأخــتـانِ
طُُوبى لمن وَالَـى جماعـةَ صحبـهِ 

ويكـون مِـن أحبابـه الحسَنـانِِ
بـيـنَ الصحـابـةِ والقـرابـةِ أُلْـفَـةٌ 
لا تستحـيـلُ بنـزغَـةِ الشيـطـانِ
همْ كالأَصابعِ في اليديْـنِ تواصُـلاً 
هـل يستـوي كَـفٌ بغيـر بَنـانِ؟
حَصِرتْ صُدورُ الكافريـن بوالـدِي 
وقُلوبُهُـمْ مُلِئَـتْ مـن الأضغـانِ
حُـبُّ البتـولِ وبعلِهـا لـم يختلِـفْ 
مِـن مِـلَّة الإسـلامِ فـيـه اثـنانِ
أكْــرِم بأربـعـةٍ أئـمـةِ شـرعـنـا 
فـهُمُ لـبـيـتِ الـديـنِ كـالأركـانِ
نُسجـتْ مودتهـم سَـدَىً فـي لُحمـةٍ 

فبناؤهـا مــن أثـبـتِ البُنـيـانِ
اللهُ ألَّـــفَ بــيــن وُدِّ قـلـوبـهـم 

لـيـغـيظَ كُــلَّ مُـنـافـق طــعانِ
رُحمـاءُ بينـهـمُ صَـفَـتْ أخلاقُـهُـمْ 

وخَـلـتْ قُلُوبـهـمُ مــن الشـنـآن
فدُخولهـم بـيـن الأحـبـة كُلْـفـةٌ 

وسبابُـهـم سـبـبٌ إلــى الحـرمـانِ
جمـع الإلـهُ المسلميـن علـى أبـي

واستُبدلـوا مـن خوفهـم بأمـانِ
وإذا أراد اللهُ نُـصـرةَ عـبـده مــن ذا 

يُـطـيـقُ لـــهُ عـلــى خـــذلانِ
مَنْ حبَّني فليجتنـب مَـنْ سبنـي إن 

كـانَ صـان محبتـي ورعانـي
وإذا محبـي قـد ألـظَّ بمُبغضـي فكلاهمـا

فــي البُـغـض مُستـويـانِ
إنــي لطيـبـةُ خُلِـقْـتُ لطـيـبٍ 

ونـسـاءُ أحـمـدَ أطـيـبُ الـنِّـسوان
إنـي لأمُ المؤمنيـن فمـن أبــى حُـبـي 

فـسـوف يـبُـوءُ بالخـسـران
اللهُ حبَّبَـنـي لِقـلـبِ نـبـيـه وإلـى 

الـصـراطِ المستـقـيـمِ هـدانــي
واللهُ يُـكْـرِمُ مــن أراد كرامـتـي 

ويُهـيـن ربــي مــن أراد هـوانـي
والله أسـألُــهُ زيـــادةَ فـضـلـه 

وحَـمِـدْتُـهُ شـكــراً لِـمــا أولانــــي
يـا مـن يلـوذُ بأهـل بيـت مُحمـدٍ
يـرجـو بـذلـك رحـمـةَ الرحـمـان
صِـلْ أمـهـاتِ المؤمنـيـن ولا تَـحُـدْ 
عـنَّـا فتُسـلـب حُـلـة الإيـمـان
إنــي لصـادقـة المـقـالِ كريـمـةٌ 
إي والــذي ذلـــتْ لـــه الـثـقـلانِ
خُذهـا إلـيـكَ فإنـمـا هــي روضــةٌ
محفـوفـة بـالـرَّوْحِ والريْـحـانِ
صلي الإلـــــة علي النبي واّـــــله 
فبـــهم تشــم أزاهر البستان

الثلاثاء، 14 أغسطس 2012

عابرة.. في كلام عابر





بقلم: علي المسعودي




تكتب الشاعرة الراحلة عابرة سبيل في افتتتاح ديوانها الشعري الوحيد..

(أنا لا أعصر الجرح لتفرحوا بنزفه، فهذا عذاب آخر، بل تعصرني الجراح، وتولد القصائد)..

وقصائد «عابرة سبيل» جرح ممتد، فائض بالممتع من العذاب، وبالغائر الجميل من اللوعة.
هي شخصية شعرية باهرة الظهور، وشخصية إنسانية محفوفة بالمجهول.
قنعت بالحضور الشعري الصريح.. باسم مستعار، وتركت لقارئها متعة الشعر.. والاحتمالات.
عاشت.. وعاش معها سؤال ملحّ تردد من الجمهور كثيرا: من هي عابرة سبيل؟ من تكون؟ الى من تنتسب؟ أين تسكن؟
وعندما ماتت عرف الناس اسمها: (وسمية الصابري)
لكنها لم تكن لغزا شعريا.. ينتهي الحديث عنه بمجرد معرفة حله..
في حياتها.. اختفت وراء شعر مذهل.. يمكنه رسم الكثير من ملامح شخصيتها: الحزينة، المرحة، المحافظة على أصالة بداوتها، الساخرة من المجتمع.. ومن نفسها أحيانا، تتذكر عزلتها الاجبارية ثم الاختيارية.
من هي عابرة؟
ويقابل السؤال صمت مطبق رزين من "عابرة"  بينما التكهنات تعمل عملها... كل توقع يضرب الآخر ويحيّده، وكل خبر ينسف الآخر حتى أصبحت تنتمي إلى كل القبائل... وكلٌّ يقترح لها اسماً وفق معلومات غير موثوقة، ليتأهب الواقع للأسطرة!
تقول قارئة لها: أنا أعرفها، كانت تدرس معي أيام الثانوية في الجهراء، تقول أخرى: بل هي شاعرة من مدينة العين في الإمارات.
ويرد قارئ: لا، أنا أعرفها... أكملت تعليمها في المملكة السعودية ثم جاءت الى الكويت، فتاة تؤكد: عمرها لا يتجاوز العشرين عاماً، ترد عليها زميلتها: أمي تقول إنها تعرفها منذ زمن... عمرها يتجاوز الأربعين... شاعر يقول: إن من يقف خلف اسم «عابرة سبيل» شاعر كبير ومعروف".
قارئ يتصل: قولوا لي اسمها أرجوكم؟ لا يجد جواباً فيغلق الخط حانقاً.
نفتح ديوانها الشعري الوحيد الذي أعيدت طباعته للمرة الرابعة خلال عامين فقط.
تنشد عابرة:
صرت مثل البريء المتهم بالقتل
واقفٍ بانتظار الحكم دون امتناع
واقفٍ في طرف المحكمة منذهل
عين عند النيابة... وعين عند الدفاع!
اشهدوا زور ضده لين ضاع العدل
ما يفيد السكوت وما يفيد الصراع
وادخلوا له شيخ قال له: اغتسل!!
ولقّنوه الشهادة، ولبّسوه القناع!!
هي الشاعرة التي ترجمت مشاعر البدوية بعمق يتجاوز الشكل الخارجي، لتلغي كل ما كتبه الشعراء في المرأة من غزل، وتقتحم شفافيتها واحتدام شعورها الحميم، لتروي قصتها:
ضايقة بالحيل، محتاجه اشتكي
لولا طبعٍ  فيّ... يمديني شكيت
بس أدوّر عذر منشان البكي
لو يدوسون بطرف ثوبي بكيت
كل ما جيت اتريّح وارتكي
يزدحم في خاطري ألفين بيت
أسرعي يا نفس... موتي واهلكي!!
صرتي همي يوم بالدنيا شقيت!
وتستغرب عندما ترى هذا النموذج الغريب الذي تحققه «عابرة سبيل» في قصائدها ما بين الطرافة والحزن السحيق، كيف آلفت بين الثلج والنار؟ كيف سكبت الريح في كأس وألقتها في قلب يرتجف خوفاً وطمعاً؟
كيف ترجمت مكبوتات الأنثى وكتبتها في «ضحك كالبكاء»؟
ولعل أهم ما يلفت الانتباه ذلك النوع الانتحاري من الحب في شعر عابرة سبيل، الجارف الذي لا يقبل إلا أقصى العطاء، فيما الفراق هو رديف الموت بصورته الحسّية والمعنوية:
إليا تذكرت الموادع... وحققت
«سيده» يديني وسّعن جيب ثوبي
وتليت لي ونّة عميقة... ودنّقت
آخذ نهارٍ والصدى في جنوبي
اللي حداني يوم جيت... فارقت:
ماني شمالية... ولا هو جنوبي!!
ومن أجل شعرها القول:
لا... لا تقارن حب أمّك بحبي
أخاف من عينك تطيح الأمومة!!
وشعر «عابرة» عَبْرة في الشعر، يكتسب أهميته بالتقادم، ويزيد ثمنه بمرور الزمن، ونستجلي مع مرور الوقت، بصفتها شاعرة «أنثى» تنتمي إلى زمنين: قديم وحديث!!
> الدمعة الأخيرة:
هل أتحدث عن وصية أخيرة، أم دمعة تنسكب لتختصر الحياة، أم عن إيمان عميق مشكّل بلغة الشعر؟
كانت هي... وظلت هي... مندمجة في حرفها الإنساني، في حبرها الصادق، وفي إخلاصها التام لإيمانها بقدر الإنسان المحتوم... ولحريقها الدافئ!!
تخاطب زوجها، كأنما هي تخاطب العالم، وتتحدث عن نفسها، كأنما تتحدث بلسان كل عابر من حياة الفناء إلى حياة البقاء، توصي... لتُبكي كل من يقرأ.
ترجّ القلب رجّ المتعض المعتبر المكلوم الموجوع الذي يغلي قلبه بلحظة الوداع الحارة.
ماتت «عابرة سبيل» فأحيت بهذه القصيدة قلوباً أحبتها، واحترقت لأجلها... وهي القصيدة الأخيرة التي كتبتها وهي تقترب كثيرا من الوداع، وخاطبت بها زوجها «أبوفهد:


ترى الذبايح وأهلها ما تسلّيني
أنا أدري أن المرض لا يمكن علاجه
أدري تبي راحتي لا يا بعد عيني
حرام ما قصّرت ايديك في حاجه
خذها وصاية وأمانة لا تبكّيني
لو كان لي خاطر ما ودّك إزعاجه
أبيك في يدك تشهّدني وتسقيني
أمانتك لا يجي جسمي بثلاجه
لف الكفن في يديك وخلّ رجليني
ماغيرك أحدٍ كشف حسناه وإحراجه
أبيك بالخير تذكرني وتطريني
يجيرني خالقك من نار وهّاجه
سامح على ما جرا بينيك وما بيني
أيام نمشي عدل وأيام منعاجه
عيالي همّي وأنا اللي فيّ يكفيني
علّمهم الدين تفسيره ومنهاجه
> عابرة سبيل