الأربعاء، 22 مايو 2013

أزيز.. كأزيز الشعر!!


(قراءة أدبية)
بقلم: علي المسعودي



صمت مطبق..
سكون تام.. في الزمان والمكان
ركود أصم.. في المعنى وفي الروح
موات يكاد.. في المادة، وفي الجوهر
الما ركـد، والجريد الغض .. ما هـزّه  نسـايمٍ والـزمـن لا جـا ولا راحي

صفحة الماء من الحياة لم يتغير فيها شيء، ولم تهب نسمة تحرك جزءا من غصن، ولم تغازل سعفاً.. ولاجريدة..
والحياة لا تحتاج أكثر من حجر.. تطوحه يد خفيه.. لتبدأ الدوائر لعبتها..
وأكثر من كتب عن الدوائر هو بدر بن عبدالمحسن إذ كتب مرة (ما باقي من السفر إلا دوائر) تنطلق وتعود إلى نقطتها الأولى..
هذه اعتمالات الولوج الأول في القصيدة التي بين أيدينا.. وذلك كان استهلالها العذب المؤلم..
وكم من العذوبة في الألم.. بل كل العذوبة في الألم..
ومن لطائف القصيدة أنها تنهمر في إطلالتها تعبيررا عن السكون.. لكنها تنتصر في قافيتها لحرف "الزاي" الأبرز والأوضح صوتا والأعلى ظهور بين الأحرف.. كأنما هو نذير سرب شعر يمر له أزيز كأزيز النحل..
وولقافية دلالتها.. وأبعادها.. وهنا تحيلنا إلى آية كريمة تبدت في فواصلها ضخامة وقع حرف الزاي.. وذلك في سورة مريم: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّا) 83
وهذه الذائقة الشعرية الذكية التي دفعت البدر إلى استجلاء الصوت في الحرف.. ليكسر صمت المكان... ويزلزل حظا جامدا إلا من حركة مفاجئة لاتطول.
والقصيدة تحمل عنوان (سيد الناس).. ويتناول الشاعر فيها معنى خفيا لا يجليه.. لكنه يلمح إليه... ذكره صراحه، لكنه لايبديه تماما.. كعادة شعره.
قصيدة عن (الحظ).. بدءا من البيت الثاني تتشظى بالمعنى، وتشف عن ألم شاعرها الخاص..
جمحت يا مهر حظي وأثر بك فـزّه    ما طـوّلت كلها غـارة ومشـواحي

كأن مهر الحظ يسابق مهر القصيدة.. ويحمى وطيس الوصف، أما روي البيت الشطر الثاني فيتجلى بحسرة الحاء المجرورة بمد الياء.. كأنما هي جرح غائر، كأنما إحساس بالحريق.. كأنما هي صرخة حديد ساخن انسكب فوقه الماء، وهي أشبه بجلد لامسته جمرة الحزن.
ومأاصعب أن يكون الهم.. حارسا للهمّة!
وما أوجع أن تحمل رمحا.. لاتجد من تحاربه فيه.. وذلك الحظ.. السلاح الأقوى.. لكن ضد من؟
يسأل الشاعر:

لو لو كنت رمحٍ ٍ بكفّي كنت با هـزّه   لاشـك من هـو عليه أهوش بسلاحي
والأكثر وجعا أنك عندما تبحث عن أعلى قمة تطل منها تجدها قمة جروحك المتكدسة.. وجماجم الزمن التي تجمعت في قلبك.. فصارت جبلا من الموات القديم.. فأين ترفع راياتك ياشاعر الحزن، وفي أي مكان ستنصب أمجادك؟

ولو كنت بيرق عقيدٍ ويـن أبا رزّه     وأطـول طويلٍ أشوفه .. هضبة جراحي

تلك كانت الاستهلالات المفترضة، لمناجاة شاعر إثر حديثه مع نفسه، عن نفسه..
ليبدأ بعدها الوصف "البدري" الأخاذ.. لحالة غير ممكنة أحيانا، غير متاحة باستمرار، تعاند الوقت، وتراوغ الانتظار.. اسمع أيها الحظ الكريم.. اللئيم:

يا سـيّد الناس .. شمسك مالها حـزه    تعبت أمـاري بشمعي وضي مصباحي
من مس نورك جبينه يبشـر بعـزّه      ومـن مـر غيمك عتيمه بارقـه لاحي

اسمعنا.. فقد سمعناك طويلا.. ونعرف كم هو محظوظ من تناله بنفحة منك، أما أنا فقد تعبت وأنا أتحلى بخفوتي، وأنا أسرق من الزمن إطلالة نور.. لاتعدو كونها شمع آهل بالذوبان، ومصباح.. آيل للاضمحلال..
أما أنت.. يا حظ، فشمس تشرق في جبين متعكر.. فيرى فيها الناس العزة
وغيم.. يسح ويهطل.. فتحول جفاف البشر إلى نماء وجنان غناء..
لكنك ياحظ، غريب الأطوار.. عجيب التصرفات.. تكسو الجميع بجلالك دون تمييز.. وتنعم على الكل ببهائك دون فرز.. فلكم نعد نفرق بين البديع والوضيع..
(يا سـيّد النـاس .. كلٍ لابس ٍ بـزّه     صعبٍ نفرّق ما بين الخبل والصاحي)
ولك يا حظ إشراقات غريبة عجيبة.. حتى ظن الصغار وأنت تنميهم أنهم طاولوا الكبار، إذ يظن هذا الصغير ظنا ليس حقيقيا.. فهو يدعي أنني أطالعه..!!
كم واحدٍ مـر .. قال عيـوني تخـزّه    هو ما درى إني عمى عن قاصر أشباحي

أما الحقيقية.. فهي..
أنـا عيـوني تتـل النجم .. وتكـزّه       عن حـارك الفلك .. هذي عادة رماحي!

لكني يا حظ، لن أنتظرك.. بل سأذهب إليك، أعرف أنك لن تأتيني.. لذلك سأذهب لأقف في طريقك..
وسترى من يتعب أكثر..
ستدوخ معي أيها الحظ.. لأنك تسعد بشرا همومهم يجدونها في الأرض.. فكيف بك مع رجل تدور همته في الأفلاك البعيدة..
وما ألوم حظي .. تعب من كثر ما دزّه        لو هـو لغيري . .نسـاه الهم .. وإرتاحي
...

وما أتعس حظ يقع عند مالايقنعه المتاح، ولا يهدأ بماينال..

تلك كانت استجلاءات للمعاني الجميلة في واحدة من أجمل قصائد البدر التي أخذت القالب التقليدية، لكنها احتوت التصوير التجديدي.. وجاءت متزنة وموزونة.. مثل سفينة من الثقة تعبر بحور الشعر.. وتأزها أزا..
وهكذا هي عاد هذا الشاعر الكبير.. صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز، فهو من شعراء الندر الذي تتحقق في قصيدته جملة التقاطات تجتمع - ونادرا ماتجتمع عند غيرؤه - إذ تجد الفخر بمفردات هادئة، وتقرأ الحزن بكلمات غير مستسلمة، وتطالع الاحتجاج بروح يقينية..
ومن أجمل ماتحقق في القصيدة هو التقارب الللفظي، والتجانس الكلمي الأخاذ.. حتى كأنك تشعر أن الكلمات كلها من عائلة واحدة، من ذات الأم والأب،
وهكذا هو الحضور البدري.. وإشراقاته الأجمل

الثلاثاء، 21 مايو 2013

اركض برجلك.. أبا يوسف...

أجواء عزائية لا إرادية تحيط عادة بأي منزل يصاب أحد أفراده بمرض (السرطان)، وأشهد أنه اسم على مسمى.. من حيث النتائج والحالة، لكنه في المجمل قضاء الله الذي لا مناص منه، ولا احتجاج عليه.

أما أبويوسف فهو شقيقي الإعلامي الرصين الأنيق الهادئ لطف القلب والعشرة (حسن المسعودي).. الذي حظي باحترام ومحبة، من عرفوه وعملوا أو تعاملوا معه.

وليس لأبي يوسف حكاية غريبة ولا عجيبة.. فكل مافي الأمر أنه جرى في الحياة طولًا وعرضًا، وملأ حياته علمًا وعملًا.. لكنه فجأة توقّف أمام محطة صعبة لايستطيع بشر إلا أن يسلم أمره فيها إلا لله.

تلك المحطة هي "السرطان"..
 وقد اختار أبو يوسف أن لا يوسّع دائرة العارفين بمرضه، حتى لا يثير أحزانهم، وحتى يحصّن نفسه من ردود الفعل السلبية التي قد تؤثّر على نفسيته.. وله الحق في ذلك،  فقد وقفت بنفسي على بعض تلك الردود التي يخشاها، عندما تهمس بإذن أحدهم عن الحالة نتيجة إلحاحه بالسؤال، وما إن يسمع الخبر.. حتى يرتفع صوته محوقلًا ومهللًا ومكبرًا، يسأل الله حسن الخاتمة، ويردد بصوت مرعوب: إنا لله وإنا إليه راجعون.. حتى تظن أنه سيأتيك بعد قليل بالحنوط والكفن.. لأنك ستذهب إلى أخيك لتجده قد فارق الحياة! وهذه النوعية من البشر تثير الرعب.. وآلامها أشد من آلام المرض.

فوجئ بعضنا بحالة أخي حسن، وفجع بعضنا به، ورضي بعضنا.. أما هو فكان مسلّمًا راضيًا، بدأ بصمت وهدوء يأخذ يوميًا وجبة الإشعاع الصباحية، ثم المسائية، وأسبوعيًا جرعة الكيماوي.. حتى نحل وهزل، وابتعد عن الناس.. ولم تعد تقدر قدماه على حمله.. ولم يعد بمقدوره حتى الرد على الهاتف.. فأصبحت أنا محط سؤال أحبته وأصدقائه وزملائه.

وبين يوم وآخر أقضي معه وقتًا قصيرًا لعلّي أواسي وحدته، لكنه حقًا لم يكن وحيدًا، كان هزيل الجسم، قوي القلب، خائر القوى الجسمانية، حاضر القوى العقلية.. كنت أتمثّل وأنا أجلس بقربه  وأرى هزاله حالة أيوب عليه السلام.. الذي تساقطت عافيته شيئًا فشيئًا وانعزل عن الناس سنين طوالاً، حتى جاء الفرج بالأمر العظيم: "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب".

وضرب بقدمه  الأرض، فتفجّر الماء الزلال، ماء الشفاء والحياة، بعد ظمأ طويل، وصبر نبيل. وبعد أشهر من الغياب والتعب وألم الكيماوي الرهيب، بدأت الحياة تدب في أوصال أبي يوسف.. عاد إلى الاتصال، وبدأ يخطو إلى الحياة شيئًا فشيئًا.. بعد أن أظهرت التحاليل الكثيرة أنه شفي تماما من المرض الخبيث.. واحتفلنا بالمناسبة السعيدة.

لكن هذا المرض العجيب يتسلل بخفاء الى حيث لاتتوقع.. ليفسد عليك فرحتك.
فجأة ظهرت نتائج جديدة
ظهر الخوف في المدينة من جديد
وأجريت له عملية استئصال
وقرروا له علاجا اشعاعيا جديدا
ثم كان قرار السفر إلى الخارج.. 
..
لكن حسن ظل صلبا باسما .. قويا
وللذين يسألون عن سر قوته.. فهو بعد إيمانه بالله...
  سبق أن قاوم  المرض الخبيث مع كل أعوانه من الجائرين، المتعنصرين.. ذلك هو المرض القديم: (سرطان الهوية).. ويا له من مرض أعجب وأغرب وأوجع...


الخميس، 16 مايو 2013

غُضّ بصرَك.. أيقِظ بصيرتك..




كان خط الدفاع الأول (بيني وبين بصيرتي).. هو بصري!
منه قررت أن أبدأ رحلة التغيير فيما أحس وأرى وأتعاطى وأتفكر وأتأمل..

ثم أحدد أولوياتي..

كنت أعمل في جهة إعلامية رسمية..
وذلك يعني أنني في كل صبح على موعد مع حفلة استعراض (أزياء وأجساد).. حيث مكان عمل يضع الموازين الحِسّية في أولوية اختياره للموظفات.. خاصة تلك التي تكون على مواجهة مع الجمهور.. إذ يجب أن تحمل وجها وجسدا (يغري الكاميرا) حسب تعبير المخرجين.. (وحبذا استبدال حرف الجيم بحرف الباء في الكلمة)
أترجل من سيارتي.. لأخوض حربا نفسية مع نساء يعِشنَ نزاعا شديدا مع ملابسهنّ!..
الثياب تضغط بشدة على اللحم، واللحم يوشك أن ينفجر بما فيه..
وكان أذى حقيقيا أن تسير في ممر يصادف أنه طويل مابين موقف السيارة وبوابة الدخول إلى مقر المكتب..
عندذاك.. بدأت  أسأل: أيهما أكثر متعة: أن أطلق النظر أم أحبسه..؟
فإطلاق النظر يحقق متعة حسية مؤقته تغمسك رويدا رويدا في وحل المادي الجسدي الشهواني، وأنت تتأمل غواية لاتملكها.. وليس لك حق النظر الحر إليها.. فما هي إلا اختلاسات خاطفة وفق وصف (خائنة الأعين وماتخفي الصدور)
أما "غض البصر".. فيولّد عذاب (الحرمان اللحظي) لكنه يؤدي بتدرّج عجيب إلى متعة روحية معنوية رائعة  تؤثر في النفس ثم تأخذها في رحلة العلو والتسامي.. والتخلص من نداءات اللحم.. إلى طهارة الروح الصافية الحرة غير المقيدة بأغلال الهوى!
أعجبني أن أخوض التحدي مع نفسي المترصدة المختبئة خلف بصري.. ومن عادتي أن أستعين عليها بالدعاء..
يلفحني عطر يهبّ، وأسمع فحيح أفعى.. فأسمّر نظري في الأرض: في الأرض يابصر، في التراب ياعين الغواية، عند مواطئ القدم ياشهوة..!!
وأناجي ربي: (احسبها لي يارب)..
 وأبتسم.. كأنني أسمع جواب من لايخيب به الرجاء..
أبتسم إذ أستعيد سؤال أحبابي لحبيبي: (هل هو بعيد فنناديه.. أم قريب فنناجيه)..؟!
لا والله قريب.. قريب..
اجتزت فترة التدريب بنجاح..
واليوم.. كم أشعر بالامتنان لمواقف (الإعلام) التي دخلت فيها دورة تدريبية عظيمة.. عرفت فيها سر الاقتران بين زكاة النفس وحفظ العرض.. وغض البصر.. فالعين مرآة شهوة.. والشهوة غياب عقل.. وتحكم واحتكام المادي من قلبك.. الذي سيجرك حتما إلى سرير الفشل والخيبة.. والخنا..!
تأمل قول الخبير: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم)..
ماأعظم إحساسك بالانتماء لمنهج أخلاقي تربوي هو الدستور الوحيد في العالم الذي وضع قانون تنظيم البصر في الشوارع والطرقات بأمر نبوي يحدد حق الطريق بـ (غض البصر وكف الأذى) وهناك تتحقق نفسك الزكية.. وقد أفلح من زكاها..
أنصحك بدخول تلك الدورة التدريبية.. فهي بالمجان..
ستغير حياتك بلذة النجاح فيها..
وتذكّر أن انشغالك بفِتن نساء الآخرين.. يشغلك عن فِتن نسائك للآخرين!
...
تذكّر أن ربك العادل يغار.. وسيقتص منك في حالة!!
وسيكافئك في الحالة الأخرى..


ولهذه المعركة خطوات.. ونتائج أعرضها لاحقا بإذن الله:

علي المسعودي

الخميس، 9 مايو 2013

صلاة مأجورة..




بقلم: علي المسعودي



رغم أنني حفظت السور المقررة.. وبرغم تفوقي تفوقي في الفصل، فوجئت أن مدرس التربية الإسلامية في الصف الثالث الابتدائي الأستاذ "صالح" أنقص معدلي في الشهادة خمس درجات أثرت على ترتيبي..!
وعندما سألت، اكتشفت أنني لست من أولئك الذين يحرصون على الصلاة في مسجد المدرسة ثم يسلمون على إمامهم الأستاذ صالح، ليضمنوا الخمس درجات التي رصدها لمن يحافظ على صلاته.. وربما كنت الوحيد في الفصل الذي غفل عن ذلك.
منذ تلك اللحظة... حرصت أن أصلي خلف الأستاذ صالح مباشرة.. وبعد الصلاة ألفت انتباهه وأسلم عليه وأركز عيني في عينيه حتى أطمئن أنه ثبّت وجودي..
في الشهادة التالية، حصلت على الدرجة الكاملة..!
ورغم أنني كنت أصلاً من المصلين وإن فاتني بعض الفروض، إلا أن  صلاتي تلك  أمام مدرس التربية الاسلامية في مدرسة نعيم بن مسعود.. كانت فقط من أجل الحصول على درجة كاملة في الشهادة.. والأعمال بالنيات، ولكل امرئ مانوى!!
أما في العام التالي فكنا نتسابق في البيت أنا وصديق الطفولة (خلف) من ينهي صلاة العصر أسرع.. وكان هو يسبقني دائما، حتى أنني شككت أنه لا يقرأ سورة الفاتحة.. لكنه أقسم لي أنه يقرأها، وللاطمئنان على شرف التنافس كنت أختلس النظر لحركة شفتيه أثناء (سباق الصلاة) لأتأكد هل يتلو الفاتحة أم لأ.. فتيقنت أنه يقرأها بسرعة عجيبة..
وفي السنة الثانية من المرحلة المتوسطة.. ذهبنا إلى مسجد مدرسة "علي السالم".. نتعلم الصلاة كما صلاها النبي الكريم.. لكن أبناء العم (غانم وخليفة).. حولا الصف الخلفي للمصلين إلى حلبة صراع بالأقدام.. كل منهما يدوس قدم الآخر، ثم تحولت اللعبة إلى ضرب عنيف.. أغرقنا في موجة ضحك مجنون.. كانت نتيجته الطرد من الحصة..
وفي عالم الثقافة والمثقفين .. كان من غير اللائق جداّ أن تقطع حديث المبدعين في منتدى أدبي تسمع فيه أذان المغرب من المسجد القريب.. لكي تطلب أن تقام صلاة الجماعة، لأنك فعلا ستتهم بالتخلف..
عليك إن أردت الصلاة أن تذهب بسكوت، وخفية.. وتصلي في مكان منعزل ثم تعود إلى المنتدى الأدبي.. بدون أن تشعرهم أنك ارتكبت إثم  الصلاة..!
وكبرنا..
وظهر النذير الأول للعمر في معالم الوجه..
غاب وجه  الأستاذ صالح... فلم أعد أذكر من ملامحه شيئا..
وغاب من حياتي صديق الطفولة خلف.. وهاجر غانم.. وابتعد خليفة،
وتركت عالم المنتديات الثقافية..
بقي كل ما اعتقدت أنه الأساس.. فأصبح هامشيا..
وما كان على الهامش.. صار هو اللب.
ذهب الجميع: الأصدقاء والزملاء.. وبقي معي أنيس واحد..
بقيت معي  (الصلاة)..
لم أبتعد كثيرا عن الهدف الأول.. فقط غيرت البوصلة.. فتلك الصلاة كنت أرجو ثوابها من "رب الفصل"، أما صلاتي هذه فأريد أجرها من "رب العرش"..
صلاتي تلك كانت تحرمني من متعة اللهو في الفرصة.. وصلاتي هذه تأخذني من اللهو، إلى قيمة الحياة ومتعة المناجاة
مشكلتي مع صلاتي تلك أنها كانت تفصلني عن أصحابي.. وصلاتي اليوم أجمل مافيها أنها تفصلني عن كل الناس.. وتأخذني في شوق يطير بالقلب ويسبح به في فضاء الرحمة والسكينة..
كلما حزنت.. ركنت إليها
كلما احترت.. كانت الحل

أسجد سجدة طويلة
وعندما ألصق جبهتي بالأرض.. أعرف أنّ هذا هو أعلى مكان يمكن أن أبلغه في حياتي

أنا الآن في أقرب نقطة ممكنة من الله
تختلط حرارة الدمع.. بتهدج صوت الدعاء.. فيصبح للصوت معنى وللدمع لذة
....
كنت أصلي.. ولازلت.. الفرق في النية فقط..
(وهنا يكمن طعم الحياة...)
..
هل أحسست يوما بطعم الحديث النبوي (جُعلت قرة عيني في الصلاة)؟

انتهى التلميذ.. ياأستاذ!!



الأستاذ المحامي صلاح الهاشم.. لايعرف أن ذاكرتي بركان .. قابل للانفجار، عند أول كلمة تطأها..
وهذا ما أحدثه مقاله (انتهى الدرس ياتلميذ).. في جريدة الكويتية 29 ابريل 2013 كتب في بدايته: (أثناء دراستي في كلية الحقوق بالكويت كنت أزاول مهنة التدريس للمرحلة الابتدائية، لكوني أحمل شهادة معهد المعلمين - تخصص لغة عربية وشريعة إسلامية- وكنت أبدأ محاضراتي في الثامنة صباحا في الشويخ حتى الواحدة ظهرا، ثم أذهب إلى المدرسة (الدوام الثاني) في جليب الشويخ ، حيث مدن الصفيح وتدريس فئة البدون من الثانية عصرا وحتى السادسة مساء، ومازلت أستذكر الكثير من الطلبة النجباء في ذلك الوقت، منهم الزميل الإعلامي الشاعر علي المسعودي)...
وقد حدث أن عصفت بي ريح المقال فحملتني  إلى العام 1977
إلى طفل يخرج من مدن الصفيح (منطقة عبدالله المبارك حاليا) ويمشي عشرة كيلومترات أو اكثر.. حيث مدرسة نعيم بن مسعود الابتدائية في أطراف جليب الشيوخ..
هناك التقى بأستاذ قادم من عالم الاسمنت..
لكن الإنسان في رجل الاسمنت والإنسان في طفل الصفيح استعصيا على الماديات..!
كان التلميذ هو أنا.... وكان الاستاذ هو المحامي صلاح الهاشم..
ذلك الفتى بهي الحضور.. أنيق المظهر.. يأتي يوما بدشداشة.. ويأي في يوم آخر ببدلة افرنجية!
مازلت حتى اليوم أستفيد من درسه عن طريقة رسم الهمزة المتوسطة..
كانت فكرة شرح مذهلة.
رسم على السبورة - أيام الطباشير الملونة - حلبة مصارعة.. وقال.. أن أربع حركات تبارت في هذه الحلبة للفوز بالهمزة.. هي: الضمة والكسرة والفتحة والسكون..
وبطريقة تمثيلية مشوقة وبأسلوب قص ممتع فازت حركة الكسر على الجميع، بينما كانت السكون هي المهزوم الأكبر..
منذ ذلك الدرس يندر أن أخطئ بطريقة كتابة الهمزة المتوسطة..
وبعد أن ينتهي من الشرح، يختارني غالبا لأقرأ الدرس.. وهو يقول: (يا الله علاوي.. اقرأ).. وبذلك يكون نصف وقت الحصة قد انتهى.
أما نصف الحصة الآخر.. فيشرح لنا فيه الحياة..
كنا ننظر إليه بانبهار.. فهو رجل قادم من مناطق الكهرباء.. نحن أبناء فوانيس الليل..
منه عرفنا ماذا تعني دراسة جامعية..
يخبرنا عن بعض شؤونه.. عن زميلاته في الجامعة.. عن نخلة زرعها في البيت منذ خمس سنوات.. يشير إلينا عن طولها فيرفع يده بما يوازي قاماتنا آنئذ..
أذكر أنه غني لنا أغنية جميلة.. فيها قصة لم يسعه وقت الحصة لاكمالها..
ومن طرائفه أنه أخذ يؤنب أحد الطلبة الكسالى لأنه لم يحفظ القصيدة المقررة: (ما رضاء الله إلا في رضاء الوالدين.. ما جمال الكون إلا بحنان الأبوين).. وبينما هو كذلك وضع الأستاذ صلاح يده على رأس التلميذ.. ثم توقف عن التأنيب فجأة.. وسأله: انت تغسل شعرك؟
قال التلميذ: طبعا استاذ..
قال الاستاذ صلاح: بماذا تغسله؟
فأجاب التلميذ: بـ (تايد)!!
انفجر الأستاذ صلاح بضحك.. ممتع!
وشاركه الطلبة في الضحك!
كان الأستاذ صلاح يضحك مستغربا من ولد يغسل شعره بالتايد وليس بالشامبو
وكان الطلبة يضحكون لأنهم لا يعرفون ماهو الشامبو!!
وفي يوم كانت حصة اللغة العربية هي الحصة الثالثة.. كان الأستاذ صلاح منزعجا عصبيا على غير عادته!
لم يتحمل من أحد الطلاب حديثا هامسا مع زميله..
صرخ فينا أن نسكت جميعا.. فصمتنا..
دقائق فإذا به يسقط مغشيا عليه.. هالنا المنظر.. واحترنا.. حتى حضر الأساتذه من الإداره وحملوه خارج الصف..
عندها عرفنا كم كنا نحب الأستاذ صلاح.. وكم نحمل له مودة خاصة.
 ولم نشعر بالراحة إلا عندما رأيناه يبادلنا التحايا والابتسام في الساحة أثناء الفرصة..
كان العام الدراسي يوشك على نهايته.. حيث ذهب عنا الأستاذ صلاح ولم يعد.. وحيث ذهبت إلى بيتنا، فوجدت جرافة البلدية قد ساوته بالأرض.. لأن الدولة قررت أن تنهي مشكلة مدن الصفيح.
ولم يشعر موظفو البلدية.. وهم يجرفون البيت،  أن الطفل هو الذي كان يتهدّم.. !!

- علي المسعودي
almasoudi20@yahoo.com


رابط المقال المنشور في جريدة الكويتية:

رابط مقال الاستاذ صلاح الهاشم: