الجمعة، 23 أغسطس 2013

سعاد الصباح في السيمفونية الرمادية .. الحب في الزمن المفترس !




بقلم: علي المسعودي

الحزن يتأصل في العنوان ..

" السمفونية الرمادية " ..
اللون المحايد .. الأبيض وهو يتمدد نحو السواد ..
استحضار لروح السيمفونيات .. والربيع الحزين فيها .. والضحكة الجنائزية !
يبدأ العنوان بتلميحات الشحوب , لكنه يوقع في النفس وقعا مثل ختم الرسائل . مثلما تريد الشاعرة تماما .. تصنع في القلوب ..
" يا أحبابي " ..
بهذه الخطابية الودودة , والشكل الحواري الشفاف , تستهل سعاد الصباح قصيدتها , مقترحة حضورا مستمعا قبل أن يكون قارئا.
مناداة بالمحبة , ثم تبرير هو بمثابة تقديم .. يؤسس لحزن آت عبر فرح اللقاء الأول عند كلمة : "يا أحبابي "
التبرير " كان بودي " ..
بسط للمودة , وندم ندي ,
" كان بودي أن أسمعكم " ..
هذي الليلة " ..
تبدأ الحكاية .. الشاعرة وأحبابها , المتحدثة ومستمعوها .. شهرزاد .. والقتلة الذين يطاردونها :

" يا أحبابي ..
كان بودي أن أسمعكم
هذي الليلة , من أ شعار الحب " ..
هو ما اعتاده المتلقي من شاعرته الأثيرة .

هو ما عرفه من حب متلاطم في قلبها , وما أيقنه من جمر متأجج في موقد قصائدها .
ليست الشاعرة – الكاتبة .. فقط هي صانعة الحب , التي دوخت القلوب بهممها الحار , وحرفها الدافىء .. ونطقها الأخاذ ..
لكن المرآة بشكل عام .. تنتمي إلى هذه الخريطة , الخريطة التي يتمدد فوقها ماء الحب المسكوب من قلب المرآة , من شفتيها , من حنانها وتوقها المستمر إلى حديث الحب .

" فالمرأة من كل الأعمار
ومن كل الأجناس
ومن كل الألوان
تدوخ أمام كلام الحب "

لم تستثن الشاعرة امرأة .. من هذا التعميم , فكل امرأة مهما كان عمرها , مهما كان جنسها , أو لونها .. " تدوخ " بكلام الإحساس اللذيذ ..
تأخذ الشاعرة الكلمة من ذروة التعبير , وقمة الصياغة , وأقصى التفاعل الإنساني .. ليكون الرصد الدقيق والعميق لرد فعل امرأة تسمع كلام الحب ..
" تدوخ " .. بحرارة الحب ..
تسمعه وتتلمسه , تتنهده , وتتنفسه , ترتكبه .. وتركب موجه دون أن تعرف أين ستتجه ؟ إلى الغرق , أم إلى بر الأمان .
المهم أن تعيش من روحي دوامة الحب .. دوخان اللحظة ..

" تدوخ أمام كلام الحب ..
كان بودي أن أسرقكم بضع ثوان
من مملكة الرمل , إلى مملكة العشب " .

وهي الشاعرة التي اعتادت أن ترش مناطق الصيف بشتاتها , وتهدي للشرفات ربيعها .. هي الشاعرة ..
التي اعتاد مستمها أن تخرجه من " الرمل .. إلى العشب " ... من الجدب .. إلى المطر , ومن الجفاف ..إلى الاخضرار .. لكن الألم الثقيل يمطر فوق أرض اللآمال فيحولها ركاما .. طينا ووحلا .. لكنا في عصر عربي
فيه توقف نبض القلب ..!!
ليس هذا وقت الحب إذا , ولا حضور لاقتراح " الحب في الحرب " ..
فالجدب ينتشر في الضلوع , وتتشابك عظام المأساة , حتى تخنق القلب .. ويسقط بعروق نازفة , باكية :

" يا أحبابي :
 كيف بوسعي
أن أتجاهل هذا الوطن الواقع في أنياب الرعب ؟
كيف بوسعي
أن أتجاوز هذا الإفلاس الروحي
وهذا القحط .. وهذا الجدب ؟"..

يتصاعد الحزن شيئا فشيئا .. كنا قد حضرنا باقتراح .. أن حفلة أنس ستكون في هذا المكان .. لكن اختيار الشاعرة كان شكلا آخر من اللوعة ..
جذبتنا بكلامها اللذيذ .. " يا أحبابي " ..
سحبتنا إلى مغادرة الحقيقة .. حيث الكنوز المفقودة دون أن ندري .. لم نكن نعرف أن كل هذه المسروقات في مغارة " علي بابا " هي آلامنا وأحلامنا وقصص حبنا وكرامتنا .. لم نكن نعرف أننا لا يجب أن نعشق ونشتاق في زمن يفترس الشعر , ويحولة إلى نعي كامل وتام .. للفرح .
تجيد سعاد الصباح كعادتها وصف المشهد , بإخراج بارع , وسيناريو متقت , وحوار خاص يقع في كل نفس موقعه الأخاذ , والموجع .. تكتب بالدم .. قبل الحبر بمداد الدمع , وبشهقة القلب .. بلوعة الفؤاد .. تكتب فوق الأجساد .. لا على الورق .. على الأرواح .. لا على المكاتب .. تكتب .. كأنما تجهش :  " يا أحبابي :
كان بودي أن أدخلكم زمن الشعر لكن العالم – واأسفاه – تحول وحشا مجنونا يفترس الشعر ..


يا أحبابي :
أرجو أن أتعلم منكم
كيف يغني للحرية من هو في أعماق البئر ؟
أرجو أن أتعلم منكم
كيف الوردة تنمو من أشجار القهر ؟
أرجو أن أتعلم منكم
كيف يقول الشاعر شعرا
وهو يقلب مثل الفرخة فوق الجمر ؟ " ..
وهو زمن الشواء إذا .. لا زمن الشعراء ..

هكذا تنعى سعاد الصباح الشعر , وزمن الشعر بتوليفة حزن بري .. يصهل في كل الميادين . توليفة من كلمات الندى .. وكلمات القتل الوردة .. والمشنقة .. بئر الحرمان .. والحرية القمح .. والجوع .. الحب .. والقتل  تجمع سعاد بلغتها الشفافة , والغاضبة معا كل هذه الأضداد , لتترجم إحساسها بنهاية الشعر . إنها أشبه بحفل تأبين لقتيل الأمة , ومشهد شعري للمسير في جنازة الفقيد , الذي يحب أن يدفن .. في زمن الفوضى واللاترتيب .
هكذا تنعانا سعاد إلى أنفسنا , بهذا الكلام الموجع الذي لم نعتده منها , وكم آلمنا أن نكتشف كل هذا الحزن .. في قلب سعاد .
وكم أحزننا .. أن نعود منها بلا قصيدة حب .. بلا ضفائر , ولا حمام , ولا قبل , ولا أحضان , ولا أشواق .. كم أتعب قلوبنا .. أن نذهب إلى سعاد الصباح , ولا أحد منا يطوق خصر حبيبته .. أو يهمس في أذنها مثل شجرة تحضن عصفورا من برد الشتاء .

" يا أحبابي ":
لا هذا عصر الشعر , ولا عصر الشعراء
هل ينبت قمح من جسد الفقراء ؟
هل ينبت ورد من مشنقة ؟  
أم هل تطلع من أحداق الموتى
أزهار حمراء ؟
هل تطلع من تاريخ القتل قصيدة شعر ؟
أم هل تخرج من ذاكرة المعدن يوما قطرة ماء ؟":

تنتهى السيمفونية الرمادية .. التي تضمها مجموعة سعاد الصباح الشعرية " خذني إلى حدود الشمس "..
ومن هنا نعرف شوق سعاد إلى الخروج من هذا المكان , والطيران إلى أقصى وأبعد فضاء .
الى منبع الضياء .. إلى وهج العطاء .. إلى الذوبان الأبدي الذي لا رجعة فيه " الشمس " .. حيث لا ظل للأشياء , ولا تزوير في أشكالها وحقيقتها .
هناك في حدود الشمس يمكن أن ننسى كل هذا الترويع .. تختم سعاد الصباح قصيدتها :


" تتشابه كالرز الصيني ..
تقاطيع القتله
مقتول يبكي مقتولا
جمجمة ترثى جمجمة
وحذاء يدفن قرب حذاء



لا أحد يعرف شيئا عن قبر الحلاج
فنصف القتلى في تاريخ الفكر ,
بلا أسماء " ..

وهكذا نختتم عزف الرماد , وحزن الجمر , وانطفاء النار ..
نار الحب ..انطفأت وتحولت إلى رماد ..
وقد عزف الرماد سيمفونيته .. ثم نفخ فيالجلادون .. وطار في الفضاء. عله يبلغ الشمس .. ويعود جمرا كما كان .. وفي أوردة الجمر , قد تنبض الحياة من جديد , يتحرك في قلبها كائنان ينبضان وينهضان ليتعانقا من جديد , ويرسما شكلا طازجا للحب ..



بدر بن عبدالمحسن اشكاليات الحزن والغربة (2-2)

دراسة بقلم : علي المسعودي 



 4- لقاء له طعم الوداع:

«هات جرحك.. واتبعني».
قلت لنفسي وأنا أهمّ بالانطلاق إلى «العينية» المنطقة التي تبعد حوالي 40 كيلو متراً عن الرياض، حيث «الخالدية» مزرعة الأمير بدر بن عبدالمحسن، التي تحتضن جانباً من الجبل.
كنت أستعد للبحث عن مدن مسافرة داخل ذاكرة، عندما حضّرت «عدة الشوق»... وذهبت في سفر إلى بدر بن عبدالمحسن.
كنت بعثت إليه بعض أسئلة... فجاوبها «شعراً»، في بادرة هي الأولى منه، نادراً ما تحدث في الحوارات.
هو شعر «لا تعيه إلا في اللاوعي»... ويستحسن أن تسمعه بصوت شاعره «البدر» حتى ينجلي ظلام المعنىويحسن بكإن قرأتأن ترفع جسد الحروف لتجد روح المعنى.
أطلت بوابة المزرعة الكبيرة... مكتوب عليها «الخالدية» نسبة إلى سمو الأمير خالد ابن الأمير الشاعر.
جلست بقرب الأمير بدر في العريش المرتاح على كتف الجبل في العينية... كان وجهه يشي بعلامات الرضا والارتياح... والمحبة.
كنت متيقناً أنني على أعتاب لقاء له طعم الوداع... وها أنا أكتب الآن «كمن ينتحب على ركبة السطر... بدموع من طين»، كما تقول غادة السمانفكأن الحبر كالعطر... يعيدنا إلى أزمان أخرىأو كما قال محمود درويش «رائحة البن.. جغرافيا» كل غليان قهوة يأخذ إلى بشر، ومنزل، وعمر، وذكريات.
وهكذا هو شعر بدر... يأخذك إلى بيت، إلى حبيبة، إلى آباء وأمهات لا تعرفهم... وكانت مصادفة محضة، وأنا أودع النهار في منتصف القدوم من الكويت إلى الرياض، أن أدس شريطاً في آلة تسجيل السيارة... لينطلق صوت محمد عبده بكلمات مهندس الكلمة:
«فالليال الوضح
والعتيم الصبح..
بان لي وجه الرياض..
في مرايا السحب»..
هاهو وجه الرياض يتبدى... فنقرأ فيه ملامح وجه الشعر الذي صاغه شاعر نقش العصافير.
كنت أريد لرئتي أن تكتشف فرحة الأوكسجين... كنت راحلاً لصيد الرعشات في جسد القصيدة... فما أجمل أن تلدغ من جحر الشعر مرتين.
رأيت البدر... مرتاحاً وبهياً... وأنا على يقين أن لا أحد يستطيع أن يسرق من جناحيه الأفق، وإن ابتعد، وإن صمت... وإن برّر الصمت والابتعاد.
بالقرب منه جلست... وهو يتحدث بلغته وطريقته في التعامل مع اللغة التي يعرفها الجميعيكرر الحرف الأول من الكلمة أكثر من مرة... ثم ينطلق في حديثه الشجي، ثم يضع فاصلته المعروفة التي تأخذ السؤال: «أنت عارف»؟!
كانت أصابع الماء الشفافة تتحسس نوافذ الغرفة بفضول الانسكابوكنت بالقرب من المدفأة الشتائية التي تنتظر البرد... بينما ترتصف بالقرب منها دلال القهوة وأباريق الشاي المعطر.
كنت أعيش بقربه في أعتاب القرن الحادي والعشرين، برومانسية من القرن التاسع عشر... لا تتخلى عن نبلها وشموخها وجمال الحزن فيها.
بعد ساعة ونصف ساعة من الحديث عن الشعر والصحافة، والأغنية... عن الناس، قمنا... تقدمنا، وهو يحمل عصاه... ورحنا بين أزقة المزرعة الجميلة... نلتقط صوراً مع الرمان المتدلي من الأشجار، ونسأله عن جودة الفواكه في المزرعة... فيجيب: «أضمن لكم أشهى الرطب في مزرعتي... غيره لا أدري».
ودّعناه، على أن نعود في اليوم التالي... ونجري اللقاء.
دخلنا «الخالدية» في اليوم التالي عصراً... كان يشرف بنفسه على ما لم يكتمل من أجزاء المزرعة الشاسعة، يعطي التعليمات، ويطلب بحسه الفني ألواناً نادرة... يخلطها في خياله، لينفذوها فتشع على الجدران اليابسة حتى تحولها ربيعاً زهياً، أو صحراء ممتدة.
كنا نحاوره، ونحن نحاذر من النسيان مرة... ومن الذاكرة ألف مرة!
«اشطبيني ألف ذكرى.. واكتبي
اللي يتذكر.. غبي
واللي ما ينسى.. غبي
ودي أشوفك.. باقي لحظة
هذا كل اللي أبي».


5
       حوار الماء:


في المرايا.. وجهي اللي تمليت
آه يا وجه المرايا
أنت أنا.. والاّ سوايا
محدّ خذا وجهي
لبسوني قناع
ينسكب حوار الروح مثل حوار الماء، مرناً، جذاباً، ومتشكلاً مثلما تريد اللحظة.
يمكن أن يبدأ هذا الحوار منك... أنتهاء إلى الآخر، ويمكن أن يبدأ منه إليك.
في حالة مثل «بدر بن عبدالمحسن» الشاعر تختلط الأوراق عندكفحوارك الأول معه، هو حالة إكتمال لحوارات سابقة كثيرة.
كل الأدباء تحاورهم لتعرفهم.
لكن «بدر بن عبدالمحسن» تحاوره لتعرف نفسك.
لذلك ينتهي حوارك معه، ولن تعرف متى بدأ.
إنك تحدثت معه طويلاً من خلال حديثك عن نفسك، وأنت تركب موجة شعره.
وعندما قال:
«أرفض أني أموت في قلبك
ولا درى بموتي أحد
حتى أنا»!
لم يكن يتحدث عن حبيبة فحسب، بل عن حياة، ورؤى، وصداقات، وشعر.
أنت لن تحيا، إلا عندما تقاتل موتك... الموت الذي يترصدك من كل جهة.
يترصد عينيك اللتين تطالعان أمل الحياة.
يترصد قلبك المحب.
يترصد حبك للناس.
يترصد وهجك بالحياة.
يترصد أصدقاءكيترصد النقاء فيك.
وهكذا يكون «درس الشعر».
يكتب الشاعر ليحيينا، ليمنحنا فضيلة النضال الداخلي.
هذا شعر برتبة صاحب سمو.
وصاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن، لم ينتج إلاّ شعراً يشبهه... ويشبهنا بالقدر الذي نرتقي إليه فيه.
سموه ينبع من ذلك التميز الفريد في تواضعه وحديثه المرن السامي.
سألت كثيراً، وألح فضول السؤال أكثر مما يجب، ولم يكن يمنعنا إلاّ حرج الجُمل والإحترام، ولم يكن يردّنا إلاّ فرط كرمه في الردود... التي كان من الصعب نقل فلسفتها.
بدر بن عبدالمحسن يرى الشعر أشبه بنحت يمكن أن تراه من أكثر من جهةومن كل جانب تتشكل وجهة نظر مختلفةوكل وجهات النظر صحيحة... وإن اختلفت.
وهكذا كان النقل المباشر والحي للحديث معه.
وتحدثنا إليه عن حالة الوفاء الفريدة التي نلحظها ماثلة حية أمامنا، ونحن نذهب كل مرة ونعود بعد سنوات، لنجد أصدقاءه هم كما هم، لم ينقص منهم أحد إلاّ ما كان خارج إرادة الإنسان على البقاء فوق وجه الأرض.
بدر بن عبدالمحسن لا يغيّر أصدقاءه ولا يتغيّر عليهم، فهموه جيداً، واستوعبوا إختلافه... وإن غاب عنهم أو غابوا عنه، فإن الغياب لا يكون إلا بحضور طازج وقائم على عدم التلوّن أو الإختلاف.
صرح بدر بن عبدالمحسن كثيراً عن فكرة التوقف عن النشر، وملله من الحضور الشعري.
لكن تلك التصريحات عندما تقرأها، لا تشبه ما تسمعه منه عند ملاحظة الإحساس.
الكلام لم يتغير... لكن الإحساس يختلف تماماً.
لا تلحظ تذمراً أو يأساً أو مللاً في حديثه وإن تحدث عن اليأس والملل.
إنه مدينة محصّنة... وما يقوله ملاحظات تستوجب الأخذ بالإعتبار.
بدر بن عبدالمحسن... زارع فرح، وباذر أمل، وممطر بهجة.


6 -  من ينصف الشاعر؟


من حق الشاعر أن يرسم وجهه بنفسهقبل أن يطرّزه النقاد على هواهم ويخترعونه من جديد.
من حقه ألاّ يسلّم نفسه إلى مباضع الناقدين.
من حقه أن يظهر على المسرح بشكله ووجهه الطبيعيين... يتوجه إلى الجمهور مباشرة من غير وسطاء، وإعلانات حائط وشبّاك تذاكر.
من حقه أن يستغني عن خدمات التراجمة، والأدلة... ويتجوّل في مدينة الشعر وحده، فما دام يملك صوتاً... فلا حاجة له بكل أشرطة التسجيل.
هناك شعراء يعرفون قدر أنفسهم... هم كبار، ولعلّ أكثر ما يزعج الناس (كما يقول العقاد): «أن تكون كبيراً، يفرحون بخطاياك، ولكن حسناتك تحزنهم لأنها تكشف عجزهم، وعلوّك عليهم».
وعندما قال المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وعندما قال:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لم يكن يعبر عن غرور داخلي... بقدر ما كان يعبّر عن إحباط عميق... من الناس.
وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وارتمى في فم الزمان، وأتعبته نفسه «الكبيرة».
من حقه أن يرسم وجهه كما يراه هو، ومن حقه أن يقول ذلك... كما من حق «بدر بن عبدالمحسن» أن يقول:
يا سيدي والله ما شوف الانداد
أنا وحيد الشعر ما خلق ثاني
في زمن عدم الإيمان بالآخرين ومحاولة التجاهل والصدود... ومادام الأمر كذلك فلن ينصف «بدر» سوى «بدر» نفسه.
إنه انفجار الشاعر... والشعر دوماً لغم مؤقت ينتظر الوقت المناسب.
... أما إن لم يفعل الشاعر ذلك... ويستسلم للأمر الواقع فإنه سيعود إلى القبول بكل هذا الإحباط ويردد: «ليت الفتى حجر»!!

 7 - لحظة حلم.. لحظة حياة:

«الإخلاص  للحلم.. هو إخلاص للحياة».
واليد التي يحرّكها قلب ينبض بالإحساس، وعقل يمتلئ بتفاصيل دقيقة عن ضرورة الوجود بشكل فعلي، شاعري، إنساني، تظل حتى النهاية مصرّة على الإمساك باللحظة التي يبدأ فيها تحويل الأحلام من منطقة الخيال الى منطقة الأمر الواقع.
وبدر بن عبدالمحسن الذي قال يوماً: «عيوني تشوف النجم.. وتكزّه».
يدرك تماماً أن «الراحة» هي منتهى الحلم، وأن الصفاء الذهني هو أجمل ما يسعى إليه الإنسان، لذلك يظل الشاعر ممسكاً بطموحه الجميل بكل ما أوتي من شفافية وإخلاص لأدبه الشاسع.. المتنوع ما بين الشعر والرسم والمقال والرواية.. والحياة، ليكون منعطفاً مميزاً في تاريخ الشعر العامي في المنطقة.
هذا المسا للحب
للشوق
للمواعيد
هذا المسا لك أنت
مهما تكون بعيد
مدري سحابه.. شال؟
وإلا شعاعه جيد؟
هبّ النسيم ومال:
خصرٍ من التنهيد!!
وكلما هبّ شعره مالت غصون القلب، كلما جاء مساءٌ بأمسية له كلما كان المطر هو حديث الحروف المنهمر، هو درس الشعر الدائم، وهو ملاذ المحبة الصادقة، البدر الذي يقترح على الشمس ألا تغيب، والذي يعطي الليل ألقه الخاص، والذي يمدّ الحب بلهجة الأمل، والذي يجعل للنور طريقاً مباشراً للقلوب، والذي يدور في فلكه فضاء الجمال..
نذهب إلى شعره.. ليتوهج المدى، وترتفع هامة المعاني:
على المدى وتحت الرماد
واهج جمر..
تصيح اللهفة.. وتصبح المسافة بين التنهيدة والقلب.. أقرب وأجمل..
هي قصة الحلم.. وتحقيقه...
قصة الليل.. والنهار..
يقول بدر بن عبدالمحسن في قصيدة «قصة الليل والنهار»:
لن يقهر البحر في عينيك.. من أنا لأقهر البحر
ولن تهزم الشمس في جبينك.. من أنا لأهزم الشمس
لن تيبس الغابات.. يجف الغيم.. وتنطفئ النجوم لمجرد أن شاعراً توقف عن الغناء.. وخان الجمال... والحياة..
دعيني أكتب لك.. عن وجودك داخلي.. ووجودي خارج الأشياء..
أكتب عن الغربة الممتدة بين الضحك.. والبكاء..
وأنا أطفو على ماء راكد.. أسافر في السهول المزروعة بالعشب الميّت..
وأستلقي على عظم قصائدي العتيقة.. لن أكذب علي.. فأنا لست فرحاً..
ولن أكذب عليك.. لست فرحاً.. ولا حزيناً..
لا أريد أن أكتب عن الألم.. ملعون هو الألم..
ولا عن الحزن.. فليذهب الحزن حيث يشاء..
وأتخيلك كما أشاء.. وحيث أشاء.. أنا ما عرفتك إلا باسمة..
وما سمعتك إلا محبة..
وهكذا تظلين في خاطري..
عندما هربت من حجرات صدرك الدافئ في هذا الشتاء القارس..
وتركت الباب مفتوحاً للبرد والمطر.. كنت أعلم أنك ستغلقين الباب
بصمت.. ولن تسألي المارة عن طفل نحيل.. هرب من مواعيد نومه..
وطعامه.. كنت أعلم أنك لن تنسي قسوة الريح.. وجراح المطر..
لو أخبرتك برغبتي في الرحيل ولم أخرج وأترك الباب مفتوحاً.. لربما
كانت جراحاً.. ولوجدت لي عذراً... ووهبتني معطفاً من سماح..
لن يقهر البحر.. ولن تهزم الشمس.. وها هو يعود الطفل الضال
يقرع باب صدرك المغلق.. بقبضته الصغيرة الواهنة..
افترق عاشقان.. أحدهما سكن الليل... والآخر النهار..  وكانا يلتقيان عند كل غروب وشروق دون أن ينظر أحدهما للآخر..
وكان الناس يعيشون قصة الليل والنهار.. الحب والمستحيل..
انتهت القصيدة.. لتبدأ تراتيلها.
فالإخلاص للحلم.. هو إخلاص للحياة.
واليد التي تكتب... يحركها قلب ينبض بالإحساس، وعقل يمتلئ بتفاصيل دقيقة عن ضرورة الوجود.