بقلم: علي المسعودي
تكتب الشاعرة الراحلة عابرة سبيل في افتتتاح ديوانها
الشعري الوحيد..
(أنا لا أعصر الجرح لتفرحوا بنزفه، فهذا عذاب آخر، بل تعصرني الجراح، وتولد القصائد)..
وقصائد «عابرة سبيل» جرح ممتد، فائض بالممتع من العذاب، وبالغائر الجميل من اللوعة.
هي شخصية شعرية باهرة الظهور، وشخصية إنسانية محفوفة بالمجهول.
قنعت بالحضور الشعري الصريح.. باسم مستعار، وتركت لقارئها
متعة الشعر.. والاحتمالات.
عاشت..
وعاش معها سؤال ملحّ تردد من الجمهور كثيرا: من هي عابرة سبيل؟ من تكون؟ الى من تنتسب؟ أين تسكن؟
وعندما
ماتت عرف الناس اسمها: (وسمية الصابري)
لكنها لم
تكن لغزا شعريا.. ينتهي الحديث عنه بمجرد معرفة حله..
في حياتها..
اختفت وراء شعر مذهل.. يمكنه رسم الكثير من ملامح شخصيتها: الحزينة، المرحة،
المحافظة على أصالة بداوتها، الساخرة من المجتمع.. ومن نفسها أحيانا، تتذكر عزلتها
الاجبارية ثم الاختيارية.
من هي
عابرة؟
ويقابل السؤال صمت مطبق رزين من "عابرة" بينما التكهنات تعمل عملها... كل توقع يضرب الآخر ويحيّده، وكل خبر ينسف الآخر حتى أصبحت تنتمي إلى كل القبائل... وكلٌّ يقترح لها اسماً وفق معلومات غير موثوقة، ليتأهب الواقع للأسطرة!
تقول قارئة لها: أنا أعرفها، كانت تدرس معي أيام الثانوية في الجهراء، تقول أخرى: بل هي شاعرة من مدينة العين في الإمارات.
ويرد قارئ: لا، أنا أعرفها... أكملت تعليمها في المملكة السعودية ثم جاءت الى الكويت، فتاة تؤكد: عمرها لا يتجاوز العشرين عاماً، ترد عليها زميلتها: أمي تقول إنها تعرفها منذ زمن... عمرها يتجاوز الأربعين... شاعر يقول: إن من يقف خلف اسم «عابرة سبيل» شاعر كبير ومعروف".
قارئ يتصل: قولوا لي اسمها أرجوكم؟ لا يجد جواباً فيغلق الخط حانقاً.
نفتح ديوانها الشعري الوحيد الذي أعيدت طباعته للمرة الرابعة خلال عامين فقط.
تنشد عابرة:
صرت مثل البريء المتهم بالقتل
واقفٍ بانتظار الحكم دون امتناع
واقفٍ في طرف المحكمة منذهل
عين عند النيابة... وعين عند الدفاع!
اشهدوا زور ضده لين ضاع العدل
ما يفيد السكوت وما يفيد الصراع
وادخلوا له شيخ قال له: اغتسل!!
ولقّنوه الشهادة، ولبّسوه القناع!!
هي الشاعرة التي ترجمت مشاعر البدوية بعمق يتجاوز الشكل الخارجي، لتلغي كل ما كتبه الشعراء في المرأة من غزل، وتقتحم شفافيتها واحتدام شعورها الحميم، لتروي قصتها:
ضايقة بالحيل، محتاجه اشتكي
لولا طبعٍ فيّ... يمديني شكيت
بس أدوّر عذر منشان البكي
لو يدوسون بطرف ثوبي بكيت
كل ما جيت اتريّح وارتكي
يزدحم في خاطري ألفين بيت
أسرعي يا نفس... موتي واهلكي!!
صرتي همي يوم بالدنيا شقيت!
وتستغرب عندما ترى هذا النموذج الغريب الذي تحققه «عابرة سبيل» في قصائدها ما بين الطرافة والحزن السحيق، كيف آلفت بين الثلج والنار؟ كيف سكبت الريح في كأس وألقتها في قلب يرتجف خوفاً وطمعاً؟
كيف ترجمت مكبوتات الأنثى وكتبتها في «ضحك كالبكاء»؟
ولعل أهم ما يلفت الانتباه ذلك النوع الانتحاري من الحب في شعر عابرة سبيل، الجارف الذي لا يقبل إلا أقصى العطاء، فيما الفراق هو رديف الموت بصورته الحسّية والمعنوية:
إليا تذكرت الموادع... وحققت
«سيده» يديني وسّعن جيب ثوبي
وتليت لي ونّة عميقة... ودنّقت
آخذ نهارٍ والصدى في جنوبي
اللي حداني يوم جيت... فارقت:
ماني شمالية... ولا هو جنوبي!!
ومن أجل شعرها القول:
لا... لا تقارن حب أمّك بحبي
أخاف من عينك تطيح الأمومة!!
وشعر «عابرة» عَبْرة في الشعر، يكتسب أهميته بالتقادم، ويزيد ثمنه بمرور الزمن، ونستجلي مع مرور الوقت، بصفتها شاعرة «أنثى» تنتمي إلى زمنين: قديم وحديث!!
> الدمعة الأخيرة:
هل أتحدث عن وصية أخيرة، أم دمعة تنسكب لتختصر الحياة، أم عن إيمان عميق مشكّل بلغة الشعر؟
كانت هي... وظلت هي... مندمجة في حرفها الإنساني، في حبرها الصادق، وفي إخلاصها التام لإيمانها بقدر الإنسان المحتوم... ولحريقها الدافئ!!
تخاطب زوجها، كأنما هي تخاطب العالم، وتتحدث عن نفسها، كأنما تتحدث بلسان كل عابر من حياة الفناء إلى حياة البقاء، توصي... لتُبكي كل من يقرأ.
ترجّ القلب رجّ المتعض المعتبر المكلوم الموجوع الذي يغلي قلبه بلحظة الوداع الحارة.
ماتت «عابرة سبيل» فأحيت بهذه القصيدة قلوباً أحبتها، واحترقت لأجلها... وهي القصيدة الأخيرة التي كتبتها وهي تقترب كثيرا من الوداع، وخاطبت بها زوجها «أبوفهد:
ترى الذبايح وأهلها ما تسلّيني
أنا أدري أن المرض لا يمكن علاجه
أدري تبي راحتي لا يا بعد عيني
حرام ما قصّرت ايديك في حاجه
خذها وصاية وأمانة لا تبكّيني
لو كان لي خاطر ما ودّك إزعاجه
أبيك في يدك تشهّدني وتسقيني
أمانتك لا يجي جسمي بثلاجه
لف الكفن في يديك وخلّ رجليني
ماغيرك أحدٍ كشف حسناه وإحراجه
أبيك بالخير تذكرني وتطريني
يجيرني خالقك من نار وهّاجه
سامح على ما جرا بينيك وما بيني
أيام نمشي عدل وأيام منعاجه
عيالي همّي وأنا اللي فيّ يكفيني
علّمهم الدين تفسيره ومنهاجه
> عابرة سبيل