الأربعاء، 27 نوفمبر 2013

طلال الرشيد.. الجنايز كان ماجاك النذير!!



انهمارات الشعر.. صوت الحب.. و ذاكرة الرصاص 

نشرت هذه القراءة في مجلة بيت الشعر الإماراتية- نوفمبر2013


قراءة
بقلم: علي المسعودي


1 –
       
تراودك فكرة الكتابة عن حبيبة ما..
 لكن أوصافها تمتنع على الحضور..
تود لو تمسك طيفها.. خصلة من ضحكتها
شيئا من رائحة صوتها
لكنك لاتدرك شيئا من ذلك
فقد أضعت بكثرة الحبيبات ملامحهن جميعا
 لقد أصبح السؤال عن «مواصفات فتاة أحلامك؟».. سؤالاً  بلا صدى ولا مضمون.. لأنها حبيبة  متحوّلة، كل يوم تأتي بشكل.. !
لن تجد جواباً، ولن تجد حبيبة.. فأنت «تطارد خيط دخان» .. ومع ذلك تظل
 متمسكاً بالحلم حتى آخر خفقة قلب فيك.. ستظل لصيقاً به تلعب معه لعبة «الدخان.. والريح».
عندها تسمع طلال الرشيد يلقي قصيدة مثل «مشتاق وما عندي حبيب»..
 ولذلك يقرر «قلت أحب الحب أحسن».. عندها فقط تدرك معنى أن الحبيبة التي 
حلمت بها في مراهقتك 
ورسمت شكلها وأوصافها.. وشكل علاقتك بها.. هي حلم مستحيل لأنه حلم متغيّر لا يمكن أن يثبت على حال.. وستجد أن في صدرك صحراء قاحلة ممتدة شاسعة، لا تحدها حدود، وفي أجوائها طير يحلّق هو قطعة من سراب لا يمكن أن تصطاده
 أو تلحق به، كما لا يمكن أن ينزل على الأرض لحظة، سيظل طائراً الى الأبد.. 
وستظل تلاحقه دون أن تنعم بلمسه.. تمتع بالنظر إليه فقط..
 وقل مثل طلال الرشيد.. «صدري سما.. واحساسي طير».
 - 2 -    

ينهمر «طلال الرشيد» في الشعر بقدر انهماره في العاطفة..
 بقدر حضوره الإنساني الهائل،  وإن غاب.
وستجد ما يوازي جماليات شعر الفقيد الراحل.. هي امتداد الجماليات الساكنة فيه كإنسان ، تقرأ تفاصيلها  في ملامحه الهادئة والمريحة.. والغزيرة بالمعاني والدلالات والمحبة .
مازال عطر لقاءاتي به  يفوح في الذاكرة.
جلست معه إلى مائدة الحوار، كما جلست معه إلى مائدة الطعام، وجلست معه على مائدة الأدب، ولمست عن قرب ذلك الدفء الإنساني الذي يشع من عينيه وهو يطالع من يحبهم ويحبونه، ويتلمس عواطفهم وآمالهم، وإكبارهم له وإكباره لهم.
مازلت أتدفأ بعطر الورد في ممر وزارة الإعلام، وأنا ذاهب به إلى الاستديو حيث  أستضيفه في حلقة أعددتها له في لقاء خاص معه لتلفزيون الكويت.. ولا يفارق ذاكرتي مشهد تحلّق المحبين حوله، ومن طلبوا مني أن يسلموا عليه.. وهم يقابلونه لأول مرة.
كانت مقابلة  للمرة الأولى، أعقبت مقابلة أرواح.. فقد التقوا به من قبل عبر إحساسه الذي أشع به إليهم  بقصائد رائعة.
حملت السهرة  عنوان «مساء الشعر».. وها هو شريطها بجانبي أستعيد منه ذلك الموج الهادئ الذي يفيض من بين جنبات الشاعر الإنسان...
وهؤلاء الذين اتصلوا يعربون عن حبهم وإعجابهم، وانتظارهم للأمسية الشعرية التي سيحييها غداً في مسرح «هلا فبراير» في الكويت، وها هي الأمسية تقام، ليرمي عددا منهم «العُقَل» إلي، تبجيلاً وحباً.. وهو ينهمر إليهم بشوقه  الغزير وسحابه الوفير.
ليس ذلك فحسب... بل مازال عطر المحادثة الهاتفية بيني وبينه من خلال برنامج «خليك بالبيت" عبر قناة «المستقبل» اللبنانية، وتلك الأسئلة الجافة التي طرحها المقدّم، وتلك الأجوبة الندية
 التي تكرّم بها الضيف الأنيق الرائع.. 
بل مازال عطر الذاكرة يتسرب إليّ من خلال عدد من اللقاءات الصحفية أجريتها معه.. كانت إشباعاً ثقافياً ، وخوضاً في مجال إنساني فسيح يمثله «طلال الرشيد».
ولا أجمل أن تتفق مع طلال الرشيد ثقافياً وإنسانياً، بل إنك إن اختلفت معه لن تجده إلا هو هو.. لا يتغيّر، فإن يختلف معك يزداد روعة ورقيا.
في اللقاء التلفزيوني الذي أشرت إليه، كان طلال يوشك أن يعتذر عن السهرة، وطلب من الأصدقاء الذين معه أن يتصلوا بالتلفزيون.. ويعتذروا، لكن أحدهم قال له:  يا بونواف.. علي المسعودي هو معد السهرة، وسوف يحرجه اعتذارك.
فتنبه قليلاً.. ثم قال: إذن نحضر السهرة...
الزميل الشاعر هاني الشحيتان كان حاضرا تلك الحكاية ويذكرني بها إذا التقينا.
أما الزميلان الشاعران فهد دوحان وفهد عافت فقد ترافقنا سوياً لزيارة طلال الرشيد في زيارته الأولى للكويت أوائل التسعينات، في فندق «كويت إنترناشيونال».
كان يعاتب فهد دوحان بطريقة لفتت انتباهي، قال له: الظاهر أنك يا فهد تنوي الزواج مرة ثانية.. استغرب فهد وسأله: ليه؟ فأجابه طلال: ما عزمتني في عرسك؟!

- 3 -

وكان وجع الرحيل المفاجئ.. ترافق فيه يوم العيد ويوم الحزن..
كان قد قضى الأيام الأخيرة في الحرم المكي..
ثم توجه إلى الجزائر.. وكانت حفلة الدم

4

الحرية.. إرث.
والدم هو الاحتمال الدائم لاختيار الحرية.
الفروسية.. تتعاقب..
وطعنة الظهر هي الاقتراح الوارد لها.
الشعر.. يتوالد..
والفجيعة هي الثمن المعتاد لموهبة الشعر.
الحكمة.. تتواصل..
والغياب المفاجئ هو النتيجة المفترضة للحكمة.
طلال الرشيد..  مات.. مثل  شجرة، تحقن الأرض ببذورها.. لتولد بعدها ألف شجرة... وهاهو الابن (نواف) يظهر كصورة طبق الكرم من والده.
يُسفك الدم غيلة.. فينكسب دمع لا يتوقف، يمر في أنحاء الخليج!
اجتمع الحزن فوق بعضه، وتراكمت  الفجيعة فجأة.
«وما تدري نفس بأي أرض تموت».
الأرض التي تحصد أبناءها.
الأرض التي يذهب إليها الذاهب فلا يعود..
الطائر الذي انطلق في الفضاء، يخفق بأجنحة الحرية..
لم يكن يعلم أن رصاصة الموت تتجه إليه.
ذهب طلال العبدالعزيز الرشيد.. مبتسماً، وعاد مغسولاً بدمع الأحبة.
- 5 -

مقطع شعر لا يغيب عن الذاكرة: «ليلة البارحة... أطول الآن من ليلة البارحة»... 
إذ   تصبح الذكرى أوسع من الحدث ذاته، واستعادة شريط فعل مضى... يحمل من التفاصيل أكثر وأكبر مما كان. 
هو الذي قال: «علمتني وشلون أحب... علمني كيف أنسى»...
فهل يحفظ القلب الدافئ... درس القسوة، هل يعيه...؟
هل تخون الذاكرة أحبابها... فتنساهم...
هو الذي قال: «صدري سما... واحساسي طير»...
فأين تجد الأجنحة الآن... سماءها المفترضة، وأي قفص تختار بعد أن رحل عنها الفضاء الرحب؟!
عندما ألحّ حضور العيد على المتنبّي... كان يعرف أن مشروع فرح سيدخل الآن، سيطرق الباب، وهو ينتظر بغتة الحضور هذه...
لكن المشاعر المستريبة للقلب الذي يقرأ التفاصيل... تأخذه الوحشة فيسأل: «بما مضى... أم لأمرٍ فيك تجديد»؟!
تجيب الآن اللحظة: بما مضى... بما مضى!!
كم مرة أجّلت الحزن... ليكون بليغاً وملائماً، ومحتوياً لكل ما ينبغي من قول، ومتسعاً لفضاء عريض من اللهفة والمهابة...
الآن أقرأ رسالته الحميمة... التي وصلت قبل ست سنوات...
بخطه وقلمه أضاف كلمة «الأخ» إلى «رسميّة» الجواب المطبوع والبادئ بـ «سعادة الأستاذ...»... ليُخرِجَ الكلمات من إطارها المكتبي... إلى دائرة المشاعر الأخوية الدافئة... وقد صدق إذ قال: «بعض الأوراق لا تحتمل حرارة المشاعر، فاعذر القلم»...
وأقول له ... ولمن يقرأ : اعذر القلم... فحرارة المشاعر أكبر وأرحب...!
كان  عيد الفطر... عندما احتفل الرصاص بالجسد النبيل...
وراحت جزيرة الشعر في  «جزائر» الموت...
عندما كان للدم موعد مع الفرح...
عندما زغرد الحزن في القلب... وظل الكبير كبيراً وهو يعي قوله: «يا صغيّر ما يكبّرني اللقب».
نداء.. تصغير شديد.. نفي، ثقة
شطر حفظه الناس.. وصدقوا فيه طلال.. بلا لقب..
تتكدس أوراق العيد... محتفلة بحريقها...
وهناك من يتعذّب عذاباً إضافياً: أن لا يستطيع الحديث عن ألمه.
أقسى الألم... أن لا تتألّم!
وأصعب من المعاناة أن لا تعبّر عن معاناتك.
يرى الناس وجهك المبتسم، هيأتك الهادئة... لكنّهم لا يرون نزيفك الداخلي.
الجروح العميقة في قلبك، ... ويعذّبك كتمها.
لمتعب التركي: «توديع الاحباب مثل الموت له سكرة».
... وتحسّ دماء حارّة تتسرب في جسدك.
رائحة شواء في قلبك.
تتفرّق الأصابع إلى غير رجعة، لكن الحبّ يظل زاهياً... وهذا ما يفجّر الألم.
يا... لعذاب الغياب!!
يحضر الشاعر بكل ألقه وبهائه.. ويحضر معه غيابه بكل قلقه وشجنه..
تتكدس معانيه، فترتجف الحنايا بهذا النبل المفقود.. والجمال الذي احتفل العيد بحزنه..
- 6 -
لكن الكبير يظل كبيراً، بعيداً عن تفخيم الكلمات. وبمجابهة التأويلات، يظل «طلال الرشيد» باقياً.. حياً.. نقرأ قصيدته الفخمة:

 يا صغيّر ما يكبِّرني اللقب
    وما يصغِّرني إذا أنكرني صغير
ما خذينا الصيت من جمع الذهب
     ولا نسابة شيخ أو قربة وزير
كاسبينه من هل السيف الحَدَب
         الجنايز كان ما جاك النذير
صيتهم نجمٍ على راسه ذهب
     سمعوا الصقهان به وأجهر ضرير
بالوفا تاريخٍ أبيض ينتصب
       لا حكوا بالحق حيين الضمير
ضيّغميٍّ للسناعيس أنتسب
              لابةٍ طلنا بها عرشٍ كبير
عند حدّك يا كثير الهرج تب
           لا تمر النار وثيابك حرير
كان لك عز بذلّي فتعقب
            والله لـْ... تبطي وحبلك قصير
أحسب أنك من صناديد العرب
                وأثر ساترتك عباتك يا غرير
ما حَسَبْ للسوس زراع القصب
              والقرادة ما درى عنها البعير
ولو حسبنا للحسايف والتعب
                 ما بذرنا يالعصافير الشعير
عن هلك أبرا إلى الله وأحتسب
               الرجال اللي مجاراهم عسير
من قريش المصطفى وأبو لهب
         والدغالب ما غشت عذب الغدير
للرجال من الرجاجيل العتب
              والزكاة تحل في حال الفقير
لعن أبو وقتٍ غدينا به حطب
                 تحرقه نار يثوِّرها أجير
ما ألومك ذا الزمن سوّى العجب
            هو بقى غير الكرامة بالجفير؟
ما أذل وراسي يشم المهب
             لو بقى من شمّرٍ طفلٍ غرير
وما أهاب ولا يزلزلني غضب
             الشجاعة ورث والعاقل غزير
يا صغيّر ما يكبَّر باللقب
           غير من كان من دونه صغير
- 7 -

لا ينتهي الحديث عن «طلال».. ف نقطة نهاية القصيدة، هي اقتراح لحديث يتناسل ويتسرب من بين الأصابع كماء شعره العذب وزلال مشاعره الجذاب...
ولنسمع قراره الأخير في شعره:
أوعدك
إن كان بعدي يسعدك
الليلة أرحل
من الليلة باختار الطريق
من الليلة الليل الرفيق
وأوعدك
ما أعاتب أو ألوم.. إلا نفسي
ومادام في قلبٍ معك
أوعدك
حبيبتي يا ليت
ما قولك يا ليت
وما قد تمنيت وشكيت
حبيبتي ويلي
لا من غدا جسري
أنا لنسيانك أنتي ذكرياتي
حبيبتي
ما أصعبه نسيان ذاتي
والا أقوم.. أوعدك
سريت
عن الليل اللي فـ عيونك
عن بلادك سريت
وأوعدك أني أقول أني نسيت
بس أوعديني
لا زارني طيفك وانا وحدي
أني ما أبكي
وأنك في قلبي تموتي
وأنك على عيوني تفوتي
وما أعرفك
8 


هل كان يتوجس ويستشعر ما سيحدث عندما أسمى نفسه (الملتاع)؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق