(قراءة أدبية)
بقلم: علي
المسعودي
صمت مطبق..
سكون تام.. في
الزمان والمكان
ركود أصم.. في
المعنى وفي الروح
موات يكاد.. في
المادة، وفي الجوهر
الما ركـد، والجريد الغض .. ما هـزّه نسـايمٍ والـزمـن لا جـا ولا راحي
صفحة الماء من
الحياة لم يتغير فيها شيء، ولم تهب نسمة تحرك جزءا من غصن، ولم تغازل سعفاً..
ولاجريدة..
والحياة لا تحتاج
أكثر من حجر.. تطوحه يد خفيه.. لتبدأ الدوائر لعبتها..
وأكثر من كتب عن
الدوائر هو بدر بن عبدالمحسن إذ كتب مرة (ما باقي من السفر إلا دوائر) تنطلق وتعود
إلى نقطتها الأولى..
هذه اعتمالات
الولوج الأول في القصيدة التي بين أيدينا.. وذلك كان استهلالها العذب المؤلم..
وكم من العذوبة
في الألم.. بل كل العذوبة في الألم..
ومن لطائف
القصيدة أنها تنهمر في إطلالتها تعبيررا عن السكون.. لكنها تنتصر في قافيتها لحرف
"الزاي" الأبرز والأوضح صوتا والأعلى ظهور بين الأحرف.. كأنما هو نذير
سرب شعر يمر له أزيز كأزيز النحل..
وولقافية
دلالتها.. وأبعادها.. وهنا تحيلنا إلى آية كريمة تبدت في فواصلها ضخامة وقع حرف
الزاي.. وذلك في سورة مريم: (ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزّا)
83
وهذه الذائقة
الشعرية الذكية التي دفعت البدر إلى استجلاء الصوت في الحرف.. ليكسر صمت المكان...
ويزلزل حظا جامدا إلا من حركة مفاجئة لاتطول.
والقصيدة تحمل
عنوان (سيد الناس).. ويتناول الشاعر فيها معنى خفيا لا يجليه.. لكنه يلمح إليه...
ذكره صراحه، لكنه لايبديه تماما.. كعادة شعره.
قصيدة عن
(الحظ).. بدءا من البيت الثاني تتشظى بالمعنى، وتشف عن ألم شاعرها الخاص..
جمحت يا مهر حظي وأثر بك فـزّه ما طـوّلت كلها غـارة ومشـواحي
كأن مهر الحظ يسابق مهر القصيدة.. ويحمى وطيس الوصف، أما روي البيت
الشطر الثاني فيتجلى بحسرة الحاء المجرورة بمد الياء.. كأنما هي جرح غائر، كأنما
إحساس بالحريق.. كأنما هي صرخة حديد ساخن انسكب فوقه الماء، وهي أشبه بجلد لامسته
جمرة الحزن.
ومأاصعب أن يكون الهم.. حارسا للهمّة!
وما أوجع أن تحمل رمحا.. لاتجد من تحاربه فيه.. وذلك الحظ.. السلاح
الأقوى.. لكن ضد من؟
يسأل الشاعر:
لو لو كنت رمحٍ ٍ بكفّي كنت با هـزّه لاشـك من هـو عليه أهوش بسلاحي
والأكثر وجعا أنك عندما تبحث عن أعلى قمة تطل منها تجدها قمة جروحك
المتكدسة.. وجماجم الزمن التي تجمعت في قلبك.. فصارت جبلا من الموات القديم.. فأين
ترفع راياتك ياشاعر الحزن، وفي أي مكان ستنصب أمجادك؟
ولو كنت بيرق عقيدٍ ويـن أبا رزّه وأطـول طويلٍ أشوفه .. هضبة جراحي
تلك كانت الاستهلالات المفترضة، لمناجاة شاعر إثر حديثه مع نفسه،
عن نفسه..
ليبدأ بعدها الوصف "البدري" الأخاذ.. لحالة غير ممكنة
أحيانا، غير متاحة باستمرار، تعاند الوقت، وتراوغ الانتظار.. اسمع أيها الحظ
الكريم.. اللئيم:
يا سـيّد الناس .. شمسك مالها حـزه تعبت أمـاري بشمعي وضي مصباحي
من مس نورك جبينه يبشـر بعـزّه ومـن مـر غيمك عتيمه بارقـه لاحي
اسمعنا.. فقد سمعناك طويلا.. ونعرف كم هو محظوظ من تناله بنفحة
منك، أما أنا فقد تعبت وأنا أتحلى بخفوتي، وأنا أسرق من الزمن إطلالة نور.. لاتعدو
كونها شمع آهل بالذوبان، ومصباح.. آيل للاضمحلال..
أما أنت.. يا حظ، فشمس تشرق في جبين متعكر.. فيرى فيها الناس العزة
وغيم.. يسح ويهطل.. فتحول جفاف البشر إلى نماء وجنان غناء..
لكنك ياحظ، غريب الأطوار.. عجيب التصرفات.. تكسو الجميع بجلالك دون
تمييز.. وتنعم على الكل ببهائك دون فرز.. فلكم نعد نفرق بين البديع والوضيع..
(يا سـيّد النـاس .. كلٍ لابس ٍ بـزّه صعبٍ نفرّق ما بين الخبل والصاحي)
ولك يا حظ إشراقات غريبة عجيبة.. حتى ظن الصغار وأنت تنميهم أنهم
طاولوا الكبار، إذ يظن هذا الصغير ظنا ليس حقيقيا.. فهو يدعي أنني أطالعه..!!
كم واحدٍ مـر .. قال عيـوني تخـزّه هو ما درى إني عمى عن قاصر أشباحي
أما الحقيقية.. فهي..
أنـا عيـوني تتـل النجم .. وتكـزّه عن حـارك الفلك .. هذي عادة رماحي!
لكني يا حظ، لن أنتظرك.. بل سأذهب إليك، أعرف أنك لن تأتيني.. لذلك
سأذهب لأقف في طريقك..
وسترى من يتعب أكثر..
ستدوخ معي أيها الحظ.. لأنك تسعد بشرا همومهم يجدونها في الأرض..
فكيف بك مع رجل تدور همته في الأفلاك البعيدة..
وما ألوم حظي .. تعب من كثر ما دزّه لو هـو لغيري . .نسـاه الهم ..
وإرتاحي
...
وما أتعس حظ يقع عند مالايقنعه المتاح،
ولا يهدأ بماينال..
تلك كانت استجلاءات للمعاني الجميلة في
واحدة من أجمل قصائد البدر التي أخذت القالب التقليدية، لكنها احتوت التصوير التجديدي..
وجاءت متزنة وموزونة.. مثل سفينة من الثقة تعبر بحور الشعر.. وتأزها أزا..
وهكذا هي عاد هذا الشاعر الكبير.. صاحب
السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز، فهو من شعراء الندر الذي
تتحقق في قصيدته جملة التقاطات تجتمع - ونادرا ماتجتمع عند غيرؤه - إذ تجد الفخر
بمفردات هادئة، وتقرأ الحزن بكلمات غير مستسلمة، وتطالع الاحتجاج بروح يقينية..
ومن أجمل ماتحقق في القصيدة هو التقارب
الللفظي، والتجانس الكلمي الأخاذ.. حتى كأنك تشعر أن الكلمات كلها من عائلة واحدة،
من ذات الأم والأب،
وهكذا هو الحضور البدري.. وإشراقاته
الأجمل