قال لي د. عبدالله الغذامي:
ليس بإمكان السلطة أن تكون مثقفة .. لأن الثقافة وعي مستقل ، بينما
السلطة هيمنة وأدلجة
-عظماء التاريخ كله جاؤوا من رحم الجوع وليس من ملاعق
الذهب
- إذا عولنا على المؤسسة فإننا
نعلق عقولنا في ملف رسمي
- في قلبي دموع كثيرة أريد أن أسكبها على الورق
- سأكون ناقدا
فاشلا لو وضعت قلمي في صفحة الشعر الشعبي
- نجح القصيبي في التوفيق بين النظامي والتحرري ، وبين قلم
المبدع وتوقيع الوزير
- عجزت عن فصل العقل المشاغب عن العقل المنضبط
الفارق الكبير بين التواصل مع المُنتَج الأدبي.. والتواصل مع المُنتِج الأدبي..
ولطالما قرأت للمفكر والناقد العربي الفذ عبدالله الغذامي.. فاعتبرته الناقد الحقيقي الذي يشبه تماما مايكتب.. فهو لايراوغ في الفكر.. ولايلوذ بالتوريات.. لكنه يغوص في الفكرة يستخرج دررها
قرأت أغلب نتاجاته.. وصادفته قبل سنوات في أبوظبي.. لكنه كان يبدو سارحا مهموما بفكرة ما.. ومضى..
تواصلت معه فيما بعد أطلب منه أن ضمن لجنة تحكيم المسابقة الشعرية لدار سعاد الصباح.. فأسعدني بموافقته الفورية غير المشروطة بأية شروط..
وكم فرحت أن تطابق ذوقي مع ذوقه تماما في اختيار القصائد الفائزة..
وها أنا أضع أسئلة تدور في خلدي.. أطرحها عليه .. فيجيب..
في هذا الحديث يلغي (د. عبدالله
الغذامي) فكرة المثقف القائد والمتلقي القطيع.. ويرفض الاستسلام
لسلطة المنصب، لذلك يقرر الهرب من كل التزام يحول بينه وبين حرية الكلمة.. وهو
يتجاهل ادعاء المؤسسات بمنجز ثقافي غير حقيقي .. لكنه يؤكد تميز العويس من جهة
"تقديرها للمنجز" لا من جهة دعمه..
وينصح الغذامي
المبدع ألا يعول على دعم المؤسسة وأن يعيش بعرق إبداعه.. ويقول: لست ممن يضع بيضه في سلة المؤسسة..
هنا حديث مهم وعميق ..
- المسافة التي قطعتها مع التلقي والإنتاج.. هل تغير فيها هدفك.. هل كنت تكتب
من أجل شيء.. وأصبحت تكتب من أجل شيء آخر؟
ـ لن يتسنى لأحدنا أن يكتب من أجل شيء لأنه مهما حدد شيئا
يراه هدفا فإن النص يعرف كيف يعبر طريقه ويستقل عن صاحبه ، ولذا كانت مقوله موت
المؤلف وهي تعني استقلال النص الذي ينام عنه صاحبه ويسهر الخلق وراءها ويختصمون
كما عرفها المتنبي ، وكم سيكون ادعاء وتعاليا حينما نرى بعض الكتبة يتشدقون بالقول
بأقوال توحي بأنهم قادة لغيرهم وأنهم يشعرون بما لا يشعر به غيرهم وأنهم يعلمون
وغيرهم يتعلمون منهم ، بينما الحقيقة هي أن النص لا حياة له ولا معنى له إلا
بمقدار حيوية وفعالية قرائه ، بعد أن يغيب القائل ويرفع يده عن النص ، وبغير هذا
لا مجال للمؤلف الذي يموت نظريا مع لحظة اطلاق النص .
ما الهدف الأسمى الذي يمكن أن ينشغل به المثقف من واقع خبرتك في التعاطي مع
هذا المجال؟
ـ حينما نتكلم عن المثقف فالأولى أن نتذكر مقولة (سقوط النخبة وبروز
الشعبي) ونحن في زمن كشفت فيه وسائل التواصل الحديثة والإعلام البديل كشفت أن
الجماهير أذكى من أن تنتظر قيادة فرد متغطرس لها تحت زعم أنه مثقف وهم مجرد قطعان
وأتباع ، ذاك وهم ساد لفترة وادعاه الشعراء بوصفهم فحولا وتابعتهم نخب وهمية مثلهم ظلت تمنح نفسها تفوقا بشريا وعقليا
لم يمتحن على مدى قرون ، ثم جاءت وسائل الاتصال الحديثة لتفضح زيف الدعوى ووهميتها
.
مبادرتك بتحميل
كتبك في موقعك الالكتروني واتاحتها للجميع بالمجان.. يعني انك تنازلت عن ثمن جهد
يفرح به المؤلف.. ما البديل النفسي أو المعنوي للأجر المادي عندك؟
ـ طبعا من الناحية العملية
اتضح لي أن الناس تفضل الكتاب الورقي ، وأنا حينما هممت بفتح موقعي لتحميل كتبي
مجانا كنت أعاني من منازعة مع ضميري خشية أن أتسبب بضرر مادي للناشر ، وكان التصور
أن الموقع سيقضي على البيع ، ولذا كانت الخطوة الأولى هي بوضع الكتب القديمة التي
لم يعد للناشر فيها حق مادي من بعد توالي الطبعات ، وكذا أخذت موافقته على هذا
الأمر ـ كما وضحت في مقدمة الموقع ـ ومضى الأمر على هذه الحال وكان سببها وجود
قراء وقارئات يطلبون كتبي من مواقع جغرافية لا يسهل التواصل معها من مثل فلسطين
المحتلة وبعض بلدان في أفريقيا وآسيا ، مما هو غير ميسور لوصول الكتب في شحنات
،وكانوا يتواصلون معي طلبا لكتبي ، ولذا قررت خدمتهم بوضع الموقع .
ومع التجربة تبين لي أثناء ترددي على معارض الكتب أن الناس يسألون عن
كتبي وإذا قلت لهم إنها في الموقع ومجانية ردوا علي بأنهم يعرفون ذلك ولكنهم يريدونها
ورقية ، وهنا صرت أدرك أن الموقع لا يؤثر على الناشر ولا مبيعاته الورقية ، ولذا
صرت أضع حتى الكتب الجديدة ،وأظل أتلقى أسئلة من الناس يسألون عن مواقع البيع ،
وأظل أرد عليهم بتوجيههم للموقع ودوما تأتي الإجابة هكذا : أعرف ولكني أريد الورقي
.
هذه خلاصة تجربتي مع الموقع ، وهي تجربة تثبت أن الكتاب الورقي له
أهله وأن الإلكتروني له أهله ، ولا يؤثر أحدهما على الآخر ولكنه توسيع لقاعدة
القراء وليست سحبا لقراء هذا من قراء ذاك .
عزفت عن المناصب
الحكومية إخلاصا للعمل الثقافي الحر.. لكن غيرك من المثقفين قد لايستطيع ذلك.. هل
ذلك ضد حرية الفكر.. وهل في نموذج غازي القصيبي كسر للقاعدة؟
ـ غازي القصيبي رحمه الله مثال نادر وفريد ، وكنا نغبطه ونحبه لهذا
ولذاك وقد نجح في تنظيم وقته وذهنه معا في ضبط عجيب ، حتى إنه ليكتب وتظنه حرا
مستقلا ، وفي الوقت ذاته يوقع على ورق الوزارة وتظنه رجل دولة ورجل نظام وضبط وربط
، وهذا بسبب نجاحه في ترتيب ذهنه على تمييز دقيق بين النظامي والتحرري ، بين قلم
المبدع وتوقيع الوزير ، وكذا حاله مع الوقت والعلاقات ، ولذا نجح هنا وهناك ،
أنا لست من هذا النوع ولو صرت مسؤولا فليس بيدي التخلي عن صفتي الحرة
والمستقلة وهي شرط الكتابة وحينها سأضع الإدارة في حرج لأنها لن تتقبل حريتي
واستقلاليتي ومنها أنني كنت أضيق ذرعا بلجان الجامعة وزملائي يضيقون مني ويخافون
من وجودي معهم لأني أكره الأنظمة والقيود وتعللات التنظيم والضبط البيروقراطي ،
ولهذا قررت ترك الإدارة وترك اللجان وترك كل ما هو بيروقرايطي لأني عجزت عن فصل
العقل المشاغب عن العقل المنضبط ،وكان الحل برفض المناصب ، كل المناصب ، كبرت أو
صغرت ، وهنا ارتحت وأرحت .
-
.. هل ترى في الفعل الثقافي الرسمي مايبعث على الرضا؟
ـ أنا لست ممن يضع بيضه في
سلة المؤسسة ، أيا كانت المؤسسة ،وأتصور النجاح العلمي هو باعتماد العالم والباحث
على عرق جبينه وجهده ، وكلما عولنا على المؤسسة فإننا نعلق عقولنا في ملف رسمي ،
ربما يكون أخضر في بعض الحالات وكثيرا ما يكون أحمر أو أصفر ، بطيء الحركة أو
ممنوعا من الصرف ، ولذا ظللت عمري كله أتصرف بجهدي ولا أعول على ما هو خارجي ،وهي
نصيحتي دوما لكل من لي به علاقة أو لمن سألني عن خير السبل في التعامل اليومي مع
المؤسسات . والمؤسسات عموما ليس بيدها إنجاح المؤلف الفاشل ، كما أنها لن تعيق
المؤلف الفاعل .
ماالذي يجب فعله تجاه المشهد الثقافي
كما ترى؟
ـ كلما تركنا الثقافة حرة واكتفينا بدعمها اللوجستي فحسب فإننا نفتح لها مجالا للتحرك ، أما لو وضعنا لها خططا وبرامج ثم ظننا أننا نساعدها فالذي سيجري هو تخديرها وتحويلها إلى اتكالية ، وتعرف أن عظماء التاريخ كله جاؤوا من رحم الجوع وليس من ملاعق الذهب .
البوكر.. امير
الشعراء.. العويس.. وغيرها من حضور قوي لتشجيع الثقافة العربية.. مادلالات ذلك
عندك؟
من بين أمثلتك الثلاثة أخص العويس بالتقييم لأن لها امتدادا زمنيا في تقدير المنجز وليس في دعمه إذ أنها تحيي النجاحات الفردية وتحتفل بالمنجز ، ثم أنها مؤسسة بنيت على وقف خيري يسند نفسه ولا يعتمد على ما هو خارجه ،وسار تاريخها متوجا بأسماء عربية شهدت لها المنجزات أولا ثم استجابت مؤسسة العويس لدواعي النجاح ولصوته ، وهنا صارت تجاري الذاكرة الثقافية وتسير خلف ذاكرة الثقافة وتكتب نفسها في كتاب النجاح ،وليست تدعي أنها من يصنع ومن يخطط ، وهذا سر تميزها عربيا .
السلطة في
الخليج تحديدا هل ترى أنها مثقفة؟
ـ ليس بإمكان السلطة أي سلطة أن تكون مثقفة ، والثقافة ليست شهادات ولا كتبا ، الثقافة وعي حر مستقل ، بينما السلطة هيمنة وأدلجة ، لذا لن يجتمعا ، وترى جوابي عن غازي القصيبي الذي لم يخلط بين المثقف والوزير وميز بينهما ذهنيا ووقتيا ، وقسم نفسه بينهما في ميزان عادل لم يعتد فيه واحد على الآخر ، ولذا صار نموذجا نادرا ، وصرنا نشير إليه كنموذج .
كلما طرحت نتاجا
جديدا.. قلنا النتاج القادم للغذامي سيكون رواية حتما؟.. هل سيحدث ذلك؟
ـ ليس رواية ولكن سيكون بحول الله نصا أترك فيه الذاكرة تتداعى وتتكلم
دون كوابح مني ، وفي قلبي دموع كثيرة أريد أن أسكبها على الورق ، كما هو ظنك
الكريم .
بخلاف كتاب (فاطمة
الجهنية) فإن قارئك ظل طويلا يبحث عن كتابة ذاتية تقربه من مبدعه.. لكنك قليلا
ماتلج هذا الجانب.. هل تتحاشى ذلك، أم هو نتاج اهتمامك بالأولويات؟
ـ ربما أكرر هنا جملتي : في
قلبي دموع كثيرة وأريد أن أسكبها على الورق ، وها أنت تفضلت وكشفت عن دمعة من هذه
الدموع ، وشكرا لكرم روحك .
ألاحظك في الفترة
الأخيرة تكثر من مغازلة الشعر الشعبي.. وأرى أنه يحتاج إلى جهدك النقدي والبحثي كتراث
وكإبداع في ظل غياب الناقد في هذا المجال؟
ـ لا أظنني سأفعل شيئا للشعر الشعبي ، وذلك لجهلي التام فيه ،وأنا فيه
عالة على غيري لأعرف منهم كيف أتذوقه أو أعرف أهله ونصوصه ،ولذا سأكون ناقدا فاشلا
لو وضعت قلمي في هذه الصفحة .
مايو2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق