الله ما أجمل الحوارات التي أجريتها
مع صديقي سعود الصاعدي خارج الورق..
وليتني كنت أضع معي آلة تسجيل في
الأوقات الطويلة التي قضيناها معا بين بهو فندق الميلينيوم في الرياض ومطاعمه..
هنا أحاول تدارك الأمر، فأسجل هذا الحوار متحايلا على ذاكرة ودعت تسجيل التفاصيل منذ زمن طويل وأصبحت
اليوم تتحرش بالأساسيات!
هنا يخرج د. سعود الصاعدي عن صمته الإعلامي، ليس لأنه صامت.. بل لأنه لم يجد من يستنطقه. فهو غزير
الإنتاج.. كثير العمل الثقافي، كثيف التورط في الكلمة، محب للنقاش.. لكن مشاركاته
كلها تأتي من جهة واحدة فقط.. من جهته هو، فهو يكتب مجيبا عن تساؤلات نفسه التي
لاتنتهي..
فكان أن وضعت أمامه بعض تساؤلاتي
- تجربتك في
الرواية.. اعتمدت خيالا فنتازيا خصبا، منطلقا من واقع ماثل،
كيف استطعت
المزاوجة بين النقيضين..؟
- أرجو أن أكون فعلا قد وفّقتُ في
المزاوجة بين النقيضين كما تفضّلت و كما يحمل السؤال من رؤية هي عندي مؤشر على
قراءة جيدة للرواية ، و عليه أقول لعل من قرأ الرواية أدرك أنها تمتاح عالمها من
الطفولة وتستند عليها كثيرا ، وعالم الطفولة برأيي عالم وسيط بين الواقع و الخيال
الفانتازي، و لهذا جاء الخيال فيما أزعم مقبولا غير متنافر مع الواقع الذي ترسم
الرواية ملامحه ، بل كانا يرفدان بعضهما بطريقة المداولة كما يحدث في ساعة الرمل
لايكاد يفرغ جزؤها الأعلى حتى تنكفئ ليبدأ الإفراغ من جديد، وهكذا يتم التداول بين
عوالم الرواية التي ترتكز على هذه الرؤية في ثنائية تحاول أن تكون متوازنة بين
خيال وواقع ، طفولة وكهولة ، شرق وغرب ، وأخيرا رجل وامرأة. ومن هنا فالخيال /
الواقع جاء ضمن منظومة متكاملة لعل سؤالك لم يأت هكذا إلا كونه أدرك هذه السمة التي
ترتكز عليها الرواية.
- كيف وجدت
حضورك الروائي في هذا العالم الأدبي؟
- كتابتي للرواية و دخولي في تجربة
السرد لم يكن إلا انعكاسا للشعر الذي بدا لي أنه بات يضيق عن التعبير عما بداخلي
من رؤى وشعور عميق بالرغبة في قول ما لم أقله شعرا، إضافةً إلى طبيعتي النفسية
التي تنفر من النمط الواحد والشكل الواحد والصوت الواحد.. ولهذا أستطيع القول إن
دخولي في هذا الفن استجابة طبيعية لهاجس ملحّ في داخلي تولّد عن هاجس الشعر ولكنه
أراد التعبير عن نفسه سردًا،هذه المرة ، بسبب أن ما يتيحه السرد غير ما يتيحه
الشعر..
أما تقييم التجربة فمتروك للقراء و
مرتادي هذا الفن..
يهمني فقط أن أتنفّس بأكثر من رئة.
- نشطت الرواية
السعودية في الفترة الاخيرة من خلال الاعمال الشبابية.، لكنها ركزت على الهم
الجنسي بشكل واضح.، مااسباب ذلك، وماتعليقك عليه؟
- إذا نظرنا إلى توظيف الجنس في
الرواية نجده يطرح على مستويين.. مستوى يأتي عَرَضًا في مشهد لا يصرّح بقدر ما
يشير من بُعْد ، تدعو إليه ظروف الرواية في تكوينها ورؤيتها و هذا المستوى نادر في
الروايات السعودية التي تهتم بهذا الشأن، مع أن المفترض أن يكون هو الأكثر بحكم أن
الرواية تنطلق من ثقافة محافظة تعرّض بمثل هذا الأمر ولا تصرّح .
أما المستوى الثاني فهو توظيف
الرواية للجنس وليس العكس.. وهذا النوع ظهر في الروايات التي تلقّف أصحابها هذه الموضة
بدعوى كتابة المسكوت عنه وكشف المستور.. والحقيقة أن القصد إثارة الغرائز ونيل
الجوائز.. فقد بدا لي أن أكثر الروايات التي تفوز بجوائز إبداعية لا تخلو من مشاهد
جنسية تكون بمثابة المكافأة للقارئ وبمثابة التسويق لها، شأنها شأن أغلفة المجلات
مع الحسناوات.
أما انتشار كتابة الرواية فهي موضة
ثقافية في جزء كبير منها.. وانفتاح على العالم في الجزء الآخر باعتبار أن الرواية
تعكس تعدد الأصوات والتنوع الاجتماعي والثقافي.
- د. سعود
الصاعدي أستاذ الادب والنقد في جامعة ام القرى.. ماذا تعني لك هذه التسمية؟
- هذه التسمية بقدر ما هي طموح تحقق
لي بفضل الله إلا أنها في الوقت نفسه إطارا رسميا حُرِمتُ بسببه التحليق كما أريد
، فقد بت أتحرّج من أن أكتب كل شيء وهذا برأيي هو ما يجعل الكاتب ثقيلا على نفسه
وعلى الآخرين وهو السر في أن الأكاديمية تخنق الإبداع و تقتله.. فالمبدع الذي
يتحفّظ لا ينتج شيئا مختلفا ولا يكون مدهشا..
و برغم هذا العيب الكبير إلا أن
هناك ميزة تقابل هذا العيب وهي أن الدخول في المسار الأكاديمي فتح لي بوابة
البحث العلمي وفتح لي آفاق المعرفة وتمكنت بفضل الله من الإنتاج والتأليف وهذا ما
لن يتحقق لو أني لم أسلك هذا الطريق.
- أية علاقة
أسستها مع طلبتك؟ على اعتبار ان كل استاذ يدعي انه كسر الشكل التقليدي للعلاقة
والتعليم؟
لا أخفيك مازلنا كلنا أسرى الشكل
التقليدي الإلقائي في التعليم حتى مع استعمال التقنية.. سواء في ذلك الأساتذة و
طلابهم.. غير أن ما يهمني و أسعى إليه دون أن أدعي تحقيقه هو تأسيس علاقة متينة مع
طلابي ترتكز على الجانب الإنساني الاجتماعي أكثر من الجانب العلمي المعرفي، لأني
على يقين أن القلب هو الطريق إلى العقل.. حتى أثناء التعليم أحاول ربط المسائل
بالسلوك الإنساني والعاطفة الإنسانية ، إذ متى ما شعر الطالب أن العلم الذي يتلقاه
يسد حاجة نفسية في أعماقه أقبل عليه ، ولهذا دائما ما أطمئن الطلاب إلى أن النجاح
غير مرتبط بالتحصيل وإنما مرتبط بما تنتجه المادة في سلوك الطالب وشعوره العاطفي
نحوها.
أما مدى تحقيقي لهذا الأمر من عدمه
فلا أستطيع أن أجيبك لأن المعنيّ بهذا السؤال هم الطلاب أنفسهم.
- كثيرا ما يُتهم الناقد أنه عمله هو تسلق على اكتاف
المبدعين، وكان نزار قباني يحتقر النقد.. ويشبه النقاد بأطفال يركضون وراء عربة
المبدع؟ هلا ابديت رأيك في هذا الشأن؟
العداء بين النقاد و الشعراء قديم
بدأ مع الملحوظات الأولى التي كان يرصدها النحاة على الشعراء ، اتسعت بعد ذلك مع
اتساع النقد واستقلاله ، لكني أعتقد أن كل مبدع سواء في الشعر أو الرواية أو الفن
بشكل عام ينطوي في أعماقه على ناقد متى ما حفر عنه وجده، و بالتالي فلا مبرر لهذا
العداء. لكن من المهم التأكيد على أن العمل النقدي هو في حقيقته بحث عن
النموذج، عن الاكتمال، والوصول إلى النموذج عسير حتى على الناقد نفسه فيما لو كان
شاعرا ومن هنا يظهر للآخرين أن الناقد ليس في مستوى نقده، والحق أن كل منظّر يعجز
عن تطبيق الكمال في نظريته ، حتى نزار نفسه لا يستطيع أن يحقق ما يطلبه وعيه من
لاوعيه.
- تأويل النص..
إزاحة العمل النقدي من التفسير الى التأويل، هي في الوقت نفسه إزاحة لمعنى العمل
الابداعي ذاته..
حدثنا عن
تجربتك في ذاك الكتاب؟
فكرة كتاب تأويل النص بدأت بحلم ،
رؤيا في المنام ، بدت لي في تكثيفها وإيجازها وومضتها كصورة شعرية أو رسم
كاريكاتوري ينطوي على فكرة لا يمكن الوصول إليها إلا بتأويل الصورة إلى حقيقتها..
و هذا ما دعاني إلى الربط بين عمل الناقد وعمل معبر الرؤى ، إذ كلاهما يتوسل
بأدوات ذات علاقة بلغة النص المجازية التي ترتكز على التشبيه والاستعارة والرمز..
من هنا طرحت سؤال البحث: هل بين الشعر و الرؤيا /الحلم علاقة من جهة، والناقد و
معبر الرؤيا علاقة من جهة ثانية؟ فكان الجواب ما تضمَنه الكتاب .
- مشاركتك
النقدية في لجنة تحكيم مسابقة شاعر الملك، ماالذي أضافته لك؟ وماكشفته عنك؟
مشاركتي في شاعر الملك لم تكن
مشاركة متعلقة بالشعر أو الوطن فحسب ، بل كانت في رأيي إضافة لتجربتي النقدية
النظرية فقد ظللت زمنًا أطرح رؤى نقدية سواء في الصحافة أو الإنترنت لكنه كان طرحا
مجرّدا من مباشرة النقد التطبيقي المسؤول ، أي الذي يستند على الحسم في الرؤية
بعيدًا عن اي اعتبارات أخرى، فجاءت هذه التجربة لتكون بمثابة التطبيق لما
طرحته في النقد في ساحة الشعر الشعبي وإن كانت الشروط الصارمة التي انتهجتها
المسابقة على الشعراء تحدّ من حركتهم في أفق الشعر بما يجعلهم معذورين في عدم
تقديم كل ما لديهم من إبداع ، بيد أن التجربة النقدية التلفزيونية وإن كانت ترتكز
على ومضات نقدية مركّزة إلا أنها أضافت لي حضورا إعلاميا من جانب وكشفت لي من جانب
آخر حاجة أكثر الشعراء إلى تعميق ثقافتهم الشعرية ورؤاهم لكتابة الأجمل والأعمق
دون النظر إلى ما يقال عنهم من قبل الجمهور وبخاصة الشعراء الذين لهم مكانتهم في
الشعر.
من زاوية أخرى كان هناك
"هامش" في المسابقة يكاد يفوق "المتن" ..أو بتعبيرٍ أدونيس :
الهامش الذي صار متنا، تمثّل هذا الهامش في المقابسات النقدية والعلاقات الأخوية
مع أعضاء لجنة التحكيم و مع بعض الأصدقاء الذين كنا نلتقي بهم في جلسات الفندق.
- كتابتك الشعر
الفصيح.. كيف تقيمها.. ؟
أحتاج كي أُقيّم تجربتي في الشعر
الفصيح أن أنفصل عن ذاتي لأتحدّث بحرية، وهذا غير متحقق فلم يبق إلا أن أتسامح مع
الذات وأتحدث بوصفي قارئا يقول انطباعه معترفًا بالانحياز الكامل وعدم الحياد.
تجربتي في الشعر الفصيح هي خطوتي الأولى نحو الأدب ومهنة الكتابة ، كان ذلك
قبل دخولي الساحة الشعبية ، وكنت كغيري أنظم ما أعتقد أنه شعر ، كلام موزون مقفى
ترفده عاطفة وتتخلله بعض الصور ، و على هذا المنوال نسجت بداية التكوين. بعد
قراءاتي في الشعر واطلاعي على التجارب الشعرية المعمّقة سواء الفصيحة منها أو العامية
عرفت أن كثيرا مما كتبت ليس شعرًا بالمعنى العميق والمنفتح لهذا المفهوم الزئبقي ،
فشعرت أني بدأت اتلمس سر و سحر الشعر و لا أزال على حد تعبير خالد الردادي
"طفل يتلمّس على سطح الورق صورةْ" .
أستعد الآن لطباعة مجموعة شعرية
بعنوان "حلم له طعم البلاد" أزعم أنه يحوي نصوصا شعرية ناضجة فنيا ومغايرة
لما كنت أعرفه عن الشعر.. تشكّلت وفقًا لرؤية تنتظمها وتستجيب لمفاتيح النقد وهذا
هو الأهم عندي في كتابة الشعر.
- حضورك في
الفيسبوك.. متواصل ونشط جدا
يبدو انك محب
لهذا العالم؟
بالفعل أجدني في عالم الفيسبوك
أكثر.. واستمتع بأيقوناته ومداخله و مخارجه وأزقّته الضوئية فهو عندي حيّ موازٍ
للحي الشعبي الذي نشأت فيه وترعرعت.. عكس عالم تويتر التجاري الذي يمثّل لي عالم
المادة والمؤسسات الحكومية.. حين أكتب في توتير لا يزعجني قصر المساحة بل تلك
الرسمية التي تقف على أصابعي و شعوري أني أسير على جسر معلّق على أنظار الناس.. وبالتالي
تتحول الكتابة إلى وظيفة وتصبح موظفا عند نفسك، هذا بالإضافة إلى أنك في تويتر لا
تأمن السفهاء إن حاولت أن تتخفّف من الرسمية ، أما عالم الفيسبوك فأشعر أنه عالم
أكثر انفتاحًا و حميمية و أقرب إلى ذاكرة القرية و الطفولة الحالمة.
نقد شعر رواية،
اين منها انت سعود الذي تحب؟
وهل هذا
التنويع هو محاولة الثورة على الذات؟
اجبت على بعض
هذا السؤال في بعض إجابة سابقة ، وأضيف أن تعدد أجناس الكتابة لدي عطفا على أنه
استجابة لمزاج يحب التجدد كما أسلفت فهو أيضًا بحثٌ عن الذات في أشكالها المتعددة
كذلك ، فمعلوم أن ذات الإنسان لا تكمن في قالب واحد وليست مخبوءة تحت حجرة واحدة
أو في قاع بحيرة ، بل هي موزعة أشلاء في أفكار الناس و رؤاهم ، في مشاهد الحياة و
في سبحات هذا الكون الفسيح ، والشعر وحده غير كافٍ للقيام بهذه الرحلة الشاقة..
لابد من فريق عمل متكامل ترسله في طلبك كي تعثر على ذاتك الموزعة في هذا الكون
الرحب ، ومن هنا فالأدب بتعدد فنونه يحقق لك سعادة نفسية حين تستثمر هذا الفنون
بكل أشكالها دون أن تقتصر على فن واحد قد يحقق لك مجدًا أدبيا ظاهرا لكنه لا يحقق
لك السعادة والراحة النفسية.
بيد أنه من المهم أن أعترف أن توزيع الإنتاج الإبداعي بين شعر ونقد
وسرد وكتابة مقالة جاء على حساب تكثيف الحضور الشعري وتعميقه.. وهذا طبيعي ،
فالطاقة التي كان من الممكن ان تفجّر الشعر وحده ليكون الينبوع المتدفق الأوحد..
تفرّقت فخرجت ينابيع ضعف بتعددها تدفّق الماء.. لكن ماذا أفعل لمزاجي الذي لايحب
النمط الواحد ولا يريد أن يبقى على طعامٍ واحد.
حاوره: علي المسعودي
نشر الحوار في مجلة بيت الشعر الإماراتية - عدد اكتوبر 2013