السبت، 5 أكتوبر 2013

سليمان الفليح : . . دعني أتذكر جيداً " موت الأماني الصغيرة "


                 
سليمان الفليح :
. . دعني أتذكر جيداً " موت الأماني الصغيرة "



بذاكرة : علي المسعودي

ورقة في ظرف مغلق استلمها سليمان الفليح من موظف طرق باب بيته... غيرت لون وجه الصعلوك الذي لا يتأثر كثيرا بالظروف، لكنه لا يتمالك أعصابه أمام الجحود.
قبل 18 عاما ونيف... قرر التفرغ للأدب.
كان ضمن الجيش الكويتي الذي حارب في حرب 1973 في مصر
وكان ضمن الجيش الكويتي الذي حارب في تحرير الكويت.
عندما استلم بدأ فض الظرف واستخرج الرسالة، كان يستبعد حتما أنها رسالة من ادارة الجنسية تبلغه بحصوله على شرف الجنسية الكويتية..
لكن هاجسا في نفسه اقترح أن تكون رسالة شكر من الوزير تثني على خدماته العسكرية فضلا عن خدماته الأدبية التي عرفها القاصي والداني.
قرأها...
ولفرط الحسرة... لم يجد أكثر من أن يطوي شفته استهجانا ويسمع صوت دمعة تحدرت في القلب..
فمحتوى الرسالة يأمره أن يخلي بيته فورا.
ذلك أن خدمته العسكرية انتهت ولايحق له السكن في بيت في الصليبية!!
لم تضق عليه الأرض.. فالصعاليك يسكنون الجبال.. لكن سكين الجحود الذي انغرس في الخاصرة كان مؤلما..
عندما دخل الى البيت.. كان الهاتف يرن..
وكان على الطرف الآخر.. امارة الرياض تبلغه أن الأمير سلمان بن عبدالعزيز منحه الجنسية السعودية وخصص له بيتا في الرياض..
وكان الرحيل.. على وقع قول المتنبي:
(
اذا ترحلت عن قوم... وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همو..)
جمعتني زمالة طويلة مع الأستاذ الشاعر سليمان الفليح في عدة أماكن..
أولها في جريدة السياسة في أواخر الثمانينات عندما كنت صحافيا أحرر الباب الجامعي والتعليمي في نهاية الثمانيات وكان هو كاتب فيها يتردد علينا بين مساء ومساء ويجلس معه جمع من الشعراء الشباب الذي يتعاملون معه كمعلم..
ثم زاملته سنوات طويلة في مجلة المختلف..
وبعد ذلك اجتمعنا في لجنة تحكيم برنامج شاعر العرب على مدى سنتين متتاليتن..
وأكاد اقول أن سليمان الفليح الذي عرفته قبل ثلاثين عاما أو يزيد.. بقي كما هو كل تلك السنين.. أمير الصعاليك الشاعر المحتج بهدوء، الغاضب بصمت، الباحث في التاريخ دون تنطع أو مباهاة او تكسب..
أحب الشعر وشجع الشباب.. وأخذته دوامات الحزن الكثيرة.. لكنه ظل صلبا قويا..
وقبل أيام فجعنا برحيله..
وهو يركب ذلوله من الكويت الى الرياض.. قلت له:
عم تبحث يا فارس الندى؟
أعن الكلمة التي تفتح المدن؟
هل تعرف أن في الكلام مالا يحرّك واجب الاجابة بقدر ما يثير فينا شهية الكتابة؟
الطائر العابر يرمي علينا سماء.
ورائحة الخبز الطازج تفتح أمامنا المروج.
هل هي «عدوى الشجن» التي يقول عنها محمود درويش؟
أما زلت تحمل قلبك كزوادة الراعي، أم يحملك قلبك كناي، وتمضيان على غير هدى، صدى من هنا، خلف صوت مكسور.
كنت هنا يا سليمان الفليح.
لم تكن أبانا بقدر ما كنت أباً للنبات والشجر.
كنت هبة لم نتقن الفرح بها، كما نتقن الفرح بذكراها الآن.
أما زلت عاجزاً عن البقاء خارج البطولة.. والقلق، قلقك الأثير الذي أصبح هويتك الرسمية.
كنت هنا يا سليمان: وهجاً لا يفتر. هكذا «صرت... ومتاع قليل».
وترتمي البيد في الفضاء الشرس الساكن عينيك.
من بيتك الصغير النابض في قطعة 2، انطلقت حشود الكلمات، والقلوب الرطبة، والقصائد الجامحة، والصعاليك، وأحاديث المساءات الممتدة، وحكايا التراث العتيقة، والحب.
وأنت رجل تجيد «فن توزيع المحبة».
شخصياً.. أزعجتك كثيراً، وما أكثر ما غضبت مني.
ولكنه كان الغضب الجميل الأشبه بغضب المطر.
كنت هنا.
وطوال الزمن الذي عرفتك فيه حاولت أن أكتب عنك، ولكن الجملة ظلت تتمنع وتستعصي.
وها أنا استحضر كل الذاكرة، وأشرع كل أبواب القلب لريح الذكرى، فتطل القامة الباسقة تنهر وهدة الصدر.
سأقول أشياء بديهية قالها قبلي كثر.
سأسأل: هل يرحل الجبل؟
هل تتخلى قمته عن مداعبة الريح واحتضان عواء ذئاب الليالي.
سليمان.. أنت هنا.
سأجلس معك على الورق.. وأسمع نصائحك، وأسألك متخلياً عن وقاحتي، التي اعتدتها.
و كتب لي سليمان هذه الكلمات:
اسمعني جيداً وهات أذنيك كلتيهما وأحضر قلبك كله واشرح صدرك لبوحي الضاج والا لن نتفق على مبدأ الحوار أصلاً:
أنني بدوي شريد
أحب التسكع والشعر
و(العطر!!)
والزهر
والنسوة الفاتنات
وأحب الوطن والنهار الجديد
أما في ما يخص تشردي فانه قد آن لي أن أرتاح من هذه المرحلة السرمدية المضنية، ويبدو أنه حان الوقت ليرتاح قلبي في ظل شجيرة وارفه أستغل فيأها للتمدد والغناء والغذاء الجيد، وممارسة مباهجي الصغيرة وكتابة الشعر الذاتي البحث بعد أن «كاد أن يغدو الأمل خزعبلة!» ولكنني سأضعه قسراً وكيفما اتفق لأنني تعبت.. تعبت منذ طفولتي الشقية حتى اليوم حيث بقى اليتم ملازماً لهذه الحياة طوال العمر..
ايه يا أبا رزان دعني أتذكر جيداً:
في سني الجفاف المريع
وموت العصافير من سطوة الشمس
عند اشتداد الظهيره
واحتضارات أطفالنا الرائعين
على أيدي الأمهات
وحلم العشيرة وهماً
بمرأى المراعي الوفيره
تحجر قلبي المدمّي
للمدن المعدن.. لحقول نبتت في الحال
لزهور الليل الحجرية تخرج من طين الصلصال
أذكر اذ أوغل في ذهني
وتدق الذكرى في البال
وجهاً بدوياً محروقاً
صلباً كجمود التمثال
يركض خلف الابل العطشى
يحفر آباراً وهمية
تبعد آلاف الأميال
نقطعها بعيون الموتى
نمشي أياماً وليال
اذ كنا نبكي من ظمأ
يعصر أكباد الأفيال
بربّك أي طفولة تلك التي سنتحدث عنها؟ أو بمعنى آخر لأتحدث عن طفولتي بشكل آخر
أما زلت تصغي؟
وباسمتاع.. أكمل..
ولدتني أمي تخت سدره في الصحراء ولفتني بطرف عباءتها المتسخة السوداء، وسارت «تهيجن» في ضعن القبيلة، ثم تفتحت عيناي على زرقة هائلة تطبق على بحر أصفر من الرمل حيث يغدو المرء في هذا الأفق مجرد نقطة هامشية في امتداد الخليقة، بعد ذلك انحدرت الى المدينة وأدمنت مثل سكانها الحزن ومارست التسكع والفقر وقبل أن تطحن أضلاعي بأضراسها الحديدية غادرتها ببسالة نادرة بعد أن كرهت المؤسسات واشارات المرور ومعاهد التعليم ناسياً الحب والكره وكل علائم الزمن القديم. ثم هذا الغريب الذي اسمه «سليمان الفليح» في الطريق يلقاه صديق قديم يسأله بحرارة وعنف: معاً رعينا الغنم ومارسنا التسكع والفقر، لماذا تتشرد هكذا في بلادك الجميلة كالمتسولين؟! يلتفت اليه بحنق ويقول له: أنت مخطئ يا سيدي أنا لست سليمان الفليح الذي تعرفه، أنا مجرد بدوي عابر من قبيلة عنزة الضاربة من أواسط نجد حتى شواطئ الخليج مروراً بوديان العراق فأطراف الحماد فبادية الشام، أما أنا الآن فمجرد مخلوق صحراوي يعود الى الصحراء.. أتعرف الصحراء يا علي؟
عفواً قف...!!
أظن أن المسافات تداخلت في الذهن بين سيرة سليمان الفليح وسيرة بطل حيدر حيدر في رواية (الطوفان) ولكنني لست على استعداد أن أفصل بين السيرتين لأننا نتكلم عن سيرة واحدة ولشخص واحد هو الذي تحاوره الآن، واذا ما أوغلت في الشطط لست بحاجة لمن يدلني على الصواب، فقد اختلطت في ذهني الثقافات ممزوجة بزوابع الصحراء.
يتنهد سليمان، ولكنه عندما يتنهد لا يتنهد بضعف، بل بألم.. ذلك الألم الذي يزيد الشفافية ويحولها الى قوة هائلة.
يكمل وعيناه تشردان:
-
كنت أهفو للجامعة وكان حلماً صعباً لحؤول الأنظمة العرجاء والقوانين الفجة دون ذلك ولكنني حققت هذا الحلم ليوم واحد بالعمر حين ردمت هذه العقدة بالثقافة وأصبحت كما أنا، وحدث أن دعاني الدكتور مرسل العجمي لألقي محاضرة على طلابه في جامعة الكويت حول (مقاربات بين الأدب الشعبي والعربي والعالمي).
فما كان مني الا أن وقفت أمام الطلبة وقلت لهم: أوه أيها الأحبة الطلاب لطالما تمنيت أن أجلس في مقاعدكم هذه لا أن اعتلي منصب الأستاذ لأحاضر عليكم، يومها بكيت من القلب وقررت أن أوصل أولادي الى تلك المقاعد مهما كانت الأنظمة والتنازلات التي سأتكبدها في سبيل ذلك، أو لأقل لك شيئاً خاصاً: دخلت المطبخ ذات يوم على بناتي اللواتي أنهين الثانوية وجلسن في المطبخ فقط وسمعتهن يتحدثن عن الوالد العظيم والشاعر الكبير الذي يفتخرون به.
ثم نهضت احداهن وبكت وقالت: ما فائدة ذلك كله مادام لا يستطيع أن يدخلنا الجامعة، ساعتذاك تحولت الى مجرد صرصار. أصبحت أخجل حتى من رؤية وجهي في المرآة، أتعرف كم كان ذلك قاسياً على شاعر هائل؟! لست أدرى كيف تذكرت حينها (رواية المسخ) لفرانز كافكا حيث يتحول البطل الى حشرة، لذا أرجو أن لا تحدثني عن شيء اسمه التعليم.. لتسقط كل الجامعات في الوطن العربي التي لم تخرج سوى أنصاف الأميين وأشباه المتعلمين!!
هل تعني يا سليمان أن رعي الأغنام علمك أكثر مما تعلمه الجامعات؟
تعلمت أن وفاء البهائم أكثر من وفاء البشر، أتصدق أن الابل تضرب عن الرعي حينما يتركها الراعي الذي ألفته بل وتمارس الحنين والبكاء الى أن يعمد البدوي الى وضع عباءته على شجرة لكي تشم رائحته فتهدأ ثم تتعود على الفراق.
الصحراء مدرستي الأولى التي علمتني الخروج على الفقر واليباس والرتابه بكل ما فيها من أنواء، عواصف، لواهيب، أمطار غزيرة، وريح قر، ورمضاء حر ووحش، ولم لا؟.. فأنا حفيد الصعاليك والأغربة وهم أول من استلهمت من مرابعهم الخروج، أما الشعر فقد انطلقت فعلياً من القصيدة الحديثة ناهيك عن تجارب ضئيلة في القصيدة النبطية أولاً، وكنت أخاطب مجتمعاً أمياً محكوماً بالتقاليد الصعبة والأعراف القاسية والثقافة الشعبية، وكان ذلك تمرداً لغوياً بحتاً، اصطدمت فيه مع اللغة ذاتها ومن داخلها. لذا كتبت قصيدة التفعيلة والنثر والنص المفتوح ولم يكن يهمني ما يقال بالرغم من أنني لم ألق سوى المحبة والاجلال.
حتى لو لم يفهم ما أقول!! أما الخروج على الواقع مع سائده أيضاً فقد كانت لي نظرة مستقبلية للأشياء العظمى والتحولات الكبرى، صرفتني عن النظرة الخاصة بي وبعائلتي وألهتني عن كل نعم حياتي لأنني كنت أحلم مثلما كان يحلم جيلي بتغيرات هائلة تحقق الخير وتحل مشاكل الناس بطريقة شاملة، ولكن هذه النظرة اصطدمت بواقع مرعب ضللتني المثالية عنه فكنت وحيداً بمواجهته عارياً الا من الشعر. ولكنني لم أحبط مثل الآخرين بل تسلحت بالوعي لمسايرته بطريقة مخالفة تحقق لي الرؤية الجديدة له.
بعد ان بلغني خبر وفاته.. اتصلت بأخي الحبيب سامي سلمان الفليح ثم مررت بأطلال بيته الذي هجره.. ورأيت ورقة الاخلاء في الظرف ملقاه في قارعة الطريق!!







         







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق