بقلم: علي المسعودي
لم أجد شطرا يعادل قصيدة مثل هذا..
ولم أقرأ أجمل أو أجل من هذا البيت المذهل: (الناس سنّة.. وزايد الفرض)
ففيه مايكفي من تقديم الممدوح على أبناء زمنة حتى أصبح في هذا المقام بالنسبة لهم..
ما أروع الفكرة والتوظيف..
وما أرق وأشجى أبيات الشاعر الإمارتي الراحل راشد الخضر.. وما أعذب تلك الجلسات التي نقضيها محبي الشعر عندما يطول الحديث عن هذا الشاعر في حكاياته وحياته.. وأشعاره وابتكارته.
الشعر العفوي.. وجزالة الشعر، والعمق الواعي، والبساطة الصعبة!
م البن أبا يا لخل فنيال
يشفي ارتشافه علّة الميت
يا مرحبًا ونّة على البال
أهلاً وسهلاً قلت ونيت
عليا العفو همّج الجتال
عليا عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال
مابي عزا لكني أبليت
يشفي ارتشافه علّة الميت
يا مرحبًا ونّة على البال
أهلاً وسهلاً قلت ونيت
عليا العفو همّج الجتال
عليا عليتي واستعليت
واللي صنع صمّان ليبال
مابي عزا لكني أبليت
القصيدة .. القصيدة !!
هي المنعطف , وهي العبق الشيجي الذي يستدرجك إلى الجنة .. لتجدك في قلب الجحيم !
هي التي تعطيك معناها , وتفجر لك المعاني الأخرى .. منها تتوالد ذكرياتك , وفيها تتناسل أفكارك .
تأخذك من عالم إلى عوالم .
ترحل بك من معناها , إلى إمعانها في أحاسيسك ..
هكذا تفعل قصيدة " حبك طحن قلبي " لراشد الخضر :
أصبر عن الماوعنك ما صبر
لوعلى نهور تدفق دفــــــــوق
وياك لو بلا مقــــــــر باقــــر
وبلا بوشي لي سعـــــه ضوق
مجــــــروح متقرح وم أقهــر
والكبد فحمـــــــه كلهـا حـروق
لاجـــــو لا بحــــــر ولا بــــــر
بلاك يا ســــعـنى يا مخلــــــوق
لن أكمل القصيدة ..
سأبتعد عن راشد الخضر قليلا
لأقترب منه أكثر ..
شاعرة لا يعرفها إلا القلة ..
والقلة الذين يعرفونها .. لا يعرفون إلا اسمها الأول : " طرفة " ..
غابت .. بعد أن قالت :
أنا اشهد إن الود رمح مورد
إما رماني عرض والا اقتفـــــــــــاني
تعطي " طرفة " الود شكل الاغتيال ..
الطعنة المفاجأة من الخلف أو في الخاصرة
تذهب الشاعرة كما يذهب الشعراء .. إلى تحويل أعذب الأحاسيس
إلى أحاسيس العذاب .
هكذا يفعل جل الشعراء ( لئلا أقول كلهم ) يتوازنون بالعذاب , يقترحون الذهاب المعتمد إلى القيد واقتحام نار الشقاء .
أذكركم بالبيت الذي لا ينسى .
لمن ؟!
للمتنبي طبعا .. رمز الرحيل نحو الشقاء :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم !
هل أجرى " أبو الطيب " تعديلا طفيفا في بيته هذا ؟
هل استبدل بكلمة " ذو الشعر " , " ذو العقل " ؟!
هل كانت :
( ذو الشعر يشقى في النعيم بشعره ؟ )
( مثلا )
هذا اقتراح إحساس ..
إذ تتداركني فكرة أن الشاعر مخلوق للشقاء .. معجون به , متفان له .
وأن " المتنبي " مثل غيره من الشعراء – غير أنه أجدرهم – كتبوا لهم , احترفوا الوجع , وأمعنوا في التبلل بماء الحزن .
ألم يقل السياب :
( مطر .. مطر .. مطر .. أي حزن يبعث المطر ) ؟!
أليس في هذا المعنى اغتيال مباغت للفرح الكامن للمطر .
إذا لم يبعث المطر الفرح ..
ما الشيء القادر على إنعاشنا إذا ؟
ألم تحول " طرفة " بغتة الحب المفاجأة , القشعريرة اللذيذة وأنت تكتشف اختراق عيني امرأة طازجة وجديدة ولذيذة لقلبك ؟
منتهى اللذة .. تتحول إلى منتهى العذاب .
أقترب أكثر من راشد الخضر إذ يختار الذهاب الحر إلى القيد .. في قصيدة " حبك طحن قلبي " مثلا ملمح من هذا الاختيار .. الإمعان في الإتيان إلى الحب ..
وعنــــهم فــــلا يمكن اتغير
عبد لهم ما اريـــــــد معتــــــــوق
يأتي الشاعر دوما بكل ما أوتي من ولع ..
في مدحه , ورثائه , وغضبه , وحبه ..
كان يمكنه أن يختار حلاوة حرية الحب ..
لكنه يصر على عبودية الحب .. رافضا العتق ..
يجمع يديه ليضعهما في القيد طائعا ..
يدخل أمنية العذاب الجميل ..
( باب الأمل مفتوح وأيسر )
لكنه لا يريد هذا الباب .. يتركه ليذهب إلى الباب المغلق .. حتما سيغرزه في ذاته !!
ما أروع هذا العذاب :
إن قلت عــــوض قال لــي اخسر
وإن قلت : ارحم ! قال لــــي : ذوق !
شبهـــــــت نفســـي من هل البــــر
لو حضــــــري .. قلبي من هل النوق!
وهذا الشعر الطفيف .. والهفهفة الأليفة الخفيفة وهي تتدحرج من شاعر يرقب بالنظر باتجاه فاتنة تمر عبر عنها في قصيدته الشهيرة (خدلج).. ثم كان هذا الختام العفيف.. والحزن الشفيف:
و حْويجبِه لا قوس عينْ لا نونْ
محروزْ بالرحمن والكهف والنونْ
و عوقٍ بْكَبدي هوب جرحٍ و لا نون
و عوقٍ بْكَبدي هوب جرحٍ و لا نون
اعيا الدخاتر و الملالي ولا مَلْ
ألم ترب فيروز ذائقتنا على حزن يقتص منا عندما غنت :
أنا عصفورة الشــــــجن
مثل عينيك بلا وطــــــــن
بي .. كما بالطفل تسرقــه
أول الليـــل يد الوســــــــن
واغتراب . بي .. وبي فرح
كارتحال البحــــر بالسفن!
يد الوسن تسرق طفلا ..
طفل ينام ..
منظر حسي بهي .. منقوع بالفرح ..
لكن الشاعر يدخل كلمة " تسرق " ..
لتأتي بالشجن .. والاغتراب .. والشحوب , مناسبة لحالة يقترضها الشاعر لنفسه .. وهو يذهب إلى قيود يضعها ويريدها ويشتهيها .
هكذا نتعلم أن الحب ليس إغفاءة فوق غيم .. بل إغماءة فوق موقد !
هو الموقد الذي يشعله راشد الخضر ..
ويظل لهيبه حيا إلى اليوم .. يكتوي به الشعراء فرحين مرحين .. يتغنون بالحب .. عل طيره يرفرف فوق رؤوسهم .. وغالبا يحدث ذلك ..
ففي الأمثال المصرية : " جبنا سيرة القط .. جه ينط " ..
وهكذا يفعلون مع الحب .. يكتبون عن " سيرة الحب " .. لا ستدارجه كي يأتي وينط فوق قلوبهم
أتساءل أخيرا .. لماذا لم نحفظ منذ امرىء القيس وحتى هذا اليوم قصيدة تكتب عن الفرح ..
فكل ما قرأناه هو من قبيل اللوعة !
أجيب :
لا تنتظروا قصيدة فرح من شاعر ..
فالشاعر ليس لديه إلا الأحزان ..
فاستمتعوا بأحزانه ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق