الاثنين، 13 يناير 2014

ناصر القحطاني.. رصاصة تحين في توقيت الشعر بقلم علي المسعودي


 بقلم: علي المسعودي

يغيب الشاعر ناصر القحطاني عن الإعلام طويلا.. ثم يهب فجأة بعاصفة، أو غيمة، أو فيضان.
يأتي بشعر موجع.. وألم فياض.. وتصوير جدير بالإبهار.
ناصر يحمل الشعر قضية.. ويحول القصيدة إلى رصاصة حينا، وإلى غيمة خير حينا..
وفي الفترة الماضية قدم تعاونات شعرية مذهلة.
ليظل... الأكثر غزارة، وألماً.
الأكثر صدقاً... وحزناً.
قصيدته مراوغة... لا تعرف أين توجهك بوصلتها... ومن أي جهة ستهب عليك.
يفاجئك بشعره... دائماً، لأنه لا يدخل من الأبواب التقليدية...
يثقب الجدار... ليشق طريقاً لنور الشمس كي يسري في عروق المبنى الثقافي.
«ناصر القحطاني»... شاعر «الذاهبة» وشاعر أجمل الشعر...
قدم عددا من الأصدارات المقروءة والمسموعة.. بالإضافة إلى عدد من القصائد المصورة.. وكان في كل منها له بصمته الخاصة ونهجه الخاص.. حتى أشاد بها كبار الشعراء وجارى فكره صفوة المفكرين.
نتاجه الشعري ... عوالم متنوعة، همّ حقيقي، وإحساس بالأمة وقضاياها...
يرحل مع الشعر... إلى ألقه الخاص، وطبيعته الخاصة...
وفي ظل تسابق الشعراء إلى تحقيق مكاسب ذاتية ومزايا شخصية... من خلال الشعر، ينهج  نهج الأصالة في التعامل مع هذه الموهبة، بصفتها قيمة وخلقاً... ومسؤولية.
أفتح الصفحة السادسة من ديوانه (الذاهبة)... وأقرأ الإهداء:
كنت أعتقد أنني سأكون في أكثر حالاتي
ترتيباً وجاهزية مادمت أحمل المقص وأقف
أمام شريط الحفل...
لكني أحسّ بربكة شديدة، فإلى من أهدي وعمّن أتحدث...؟
أمامي... أغلى روح فقدتها...
أمامي... أغلى روح باقية...
أمامي... حلم أصبح حقيقة
أمامي... أنتم
ثم ينهمر «ناصر القحطاني» عبر مدخل معبّر:
أطوّل قامتي... وأوقّف التاريخ راس براس
وأقول إن ماتوا أهل المجد... ما ماتوا مداويره!
هذا تطواف مبهر... في عمل يتشكّل من كل لون، من كل غيمة... من كل بهاء.
تحاول أن تشكّل الشاعر فلا يتشكل، فهو يرحل مع كل حزن، أو بهجة...
يشرق في كل قصيدة بشكل جديد.
النرجسية، الإحساس الضخم بالنفس، الذاتية المفرطة...
حالات اعتدنا أن نستقبلها من الشعراء، فكل قصيدة هي صورة فوتوغرافية للشاعر... من جهة جديدة، من زاوية مختلفة.
الشاعر يحب التقاط صور لذاته... من كل شكل وبكل إطار.
لكن «ناصر القحطاني» يختلف... لأنه يحمل الكاميرا، ويبدأ في تصوير قلوب الناس.
هو مشغول بالآخرين... أكثر مما هو مشغول بنفسه، منتمٍ الى الناس... أكثر مما هو منتمٍ الى ذاته.
إحساسه يتفاعل ويعتمل بالقضايا الكبيرة... ولا يتكئ كثيراً على قضاياه هو.
نحمد الله اللي بيّن الحقد الدفين الغابي
واعتق أقنعة الوجيه اللي تقاربناها
أول المكروه سلبي... وآخرته  إيجابي
خير الأرض: «القبلة»... وخير الدروس: أقساها
يوم وصلت للحمى... ما أرخص من العنابي
من يعيش بدون مذهب... عيشته ينعاها
جدّي أعرابي وانا أعرابي وأبوي أعرابي
وأكبر مصيبه على الأعراب قرب حماها
كثّروا فيك الحكي يالمسلك الوهّابي
كلما «زمزم» شربنا شربةٍ من ماها
يزعمون أنك تصدّر كل يوم إرهابي
الله يكرّم مشايخنا وطيب لحاها...
هكذا يدافع «ناصر» عن مسلكه... ويصدّ بسيف قلمه التّهم التي تلقى جزافاً على مذهب المجدّد «محمد بن عبدالوهاب» رحمه الله... وهكذا يصوغ فكرته الجميلة عبر قصيدته المعنونة بـ «إرهابي»... وهو يذود عن هذه الأمة وهذه القبلة... أطهر أرض وأكرم ملّة.
ثم يكمّل النهج الجميل عبر قصيدته الشهيرة «جبل طارق».. لا ينعى الأمة، بل يجدد فيها الأمل، لا يصفع حاضرها... بل يذكّرها بأمجادها: الأندلس.
من خلال خطاب حميم مع «جبل»...
«طارق» وروّح... تصبّر ياجبل طارق
لو رزّت القوم في راسك بيارقها
يتبع ذلك بقصيدة تجمع «شظايا البلور المكسور» في قلبه... تحمل عنوان «قصر الحمراء»...
على الحمرا السلام وكلّ حيٍّ يذكر أمجاده
وانا تاريخي أمجاد وبراهيني مجوّدها
حديث آخر... مع قصر الأمجاد... والدمعة الشهيرة لأبي عبدالله الصغير... وجملة الأم الشهيرة:
«ابك كالنساء... ملكاً لم تحفظه كالرجال».
لكن الألم الأقسى... يندمل بالأمل:
متى؟ مدري متى!... لكن مصير الحق نعتاده
مادام جباهنا ما فارقت روضة مساجدها
هكذا يكون الرهان الأروع على «المبدأ»... من هذا التذلل لرب العزة... وإلصاق الجباه بالتراب خشية له... تكون الرفعة والمجد.
وما بين الشهيد «أحمد ياسين»... والطفل «محمد الدرة»، والبطلة «دلال المغربي»... تنطلق شظايا الشعر من بين أصابع «ناصر»... تعبئ الفضاء برائحة البارود... منبعها قلب ملتهب، ملتحم بقضايا الأمة، أمانة الدين، عذاب الإنسان، تعنّت الظالم:
وإن كان طالت والعصافير أسرف بها اللي رمى
يا الله بجيلٍ كلّه يشابه «دلال المغربي»
ثم ترتفع نيران الكلمات... وهي تحمل اسم «بغداد»:
عساها فاتحة برد وسلام وخاتمة وقّاد
على «دار السلام» الله يروّع من يروّعها
حضارة سومر وبابل... قبل تشريفة الميلاد
عروق الرسل والعلم وهل الشعر وروايعها
هوى سيف الله المسلول يوم السيوف حداد
مساري سربةٍ كان المثنى في طلايعها
ثم تدمع عيون الشعر... وهي تقرأ قصيدة رثاء فقيد الأمة العلامة «ابن باز»...
كيف نبكي لا فقدنا شيخنا العلامه
كيف نزعل والصواب اللي فجعنا سنّه
الكفيف المبعد الشامخ قصير القامه
بشّروا به سندس الفردوس واهل الجنه
أضطر لقلب صفحات تحوي لؤلؤاً من شعر... من إحساس... من وله وجمر وجمال: سالفة بدو، التعب، الغربة، كلمة راس، غازي، تهليلة وتكبيرة، يا بوي، النساء، حليب أمي، آخر زمن، شمّر، طعم المسا، فلسفة، الساعة العروس...
وقصائد أخرى كثيرة صاغها «ناصر» بأسلوب شعري مميز، حبكاً وسبكاً وتنويعاً في الأداء الشعري... وصولاً إلى الحضور الأبهى... من خلال «الذاهبة».
الوداع اللي بعلم... لعيني أعبر من رمدها
والوداع اللي بلا علم.. لقفص صدري غبينه
والوداع اللي بلا رجعه... عليّ أمرّ وأدهى
والله إنه غرغرة سمّ وسكاكينٍ سنينه
والعنود اللي جفيت الناس والدنيا بعدها
مدّت الفرقا لغاليها وهي تعطي الثمينه
هكذا... يمر «ناصر القحطاني» حييّاً، هاطلاً، كريم الشعر، بهي الحضور... تزخر به الذاكرة... لا يغيب إلا ليعود أكثر صدقا بقيمة نادرة... تستحق الشعر والتكريم... والتقدير الكبير.
لكني قبل الذهاب المرتقب لقصيدته في الصفحات التالية... أختم بهذا البيت الذي يختصر ما أود قوله، وما أسعى لتبيانه، حول قضية الشعر الرئيسية التي لا تأتي، وكلما اقتربت منها تباعدت أكثر، وسط أجواء الاستفادة السطحية من الشعر
يهتف المبدع بإجلال لقضيته المؤجلة:
غيري من الشعر استفاد ألف حاجة
وانا آتحرّى حاجةٍ مابعد جات
أقول لصديقي ناصر: أجمل من الكتابة عنك... القراءة لك!
أما قصيدته (سوار الذهب) فهي قراءة مبكرة.. لأحداث لاحقة:

يا «زول»... كل الرجال أزوال مثل الخَشَبْ
لين التعارف يضفّ من العيون الغمام
طلّيت واقفيت كنّك جاي تحمل عَتَبْ
غسلت في عامٍ أنانية ملوك ألف عام
يا الفارس اللي ترجّلت وحضنْك الهَدَبْ
يا ليتك أبطيت والدنيا عليها السلام
يوم اعتنق معصم الأمة «سوار الذهب»
طاب التلاقي... ولا أحلى منه غير الخصام
ثرت وبدل ما يسيل الدم لين الركب
أوميت بالغصن حتى جاك سرب الحمام
هِمْنا بموّالك اللي مثل صوت القصب
يا عاجل البرِّ والخيره ومسك الختام
الله على فعلك أثره مثل حدّ الحدب
والله على الكرسي أثره مثل بنت الحرام
أحْدٍ على أخوه واحدٍ ضد أبوه انقلب
ترسم وتحسم خرايط تحت جنح الظلام
واحدٍ رهين اتجاه الريح مع من غلب
واحدٍ على طول خِلْف خْلاف... ليته عَدَامْ
ما يعجبه لا العجب ولا الصيام برجب
كان أسفل السافلين وفجأة أعلى السنام
واللي انولد وسط فمه ملعقة من ذهب
الرب ساتر عيوبه من سنين الفطام
بس أنت غير وفعلوك غير... يا للعجب
من يأسنا في الحلال نظن فعلك حرام
خطـّابة العرش مرّوا في زحام وصخب
يا أشد أهمية من أهل الصخب والزحام
يا أكبر فخامة وأقوى عزوم وأعلى رتب
واطلق زعامة وأعز جنود وأطهر نظام
لا فاخروا بالدراهم والحسب والنسب
معاويه وانت عيدين بحياة العرب
واحنا جسد وانتم الاثنين تاج ووسام
قالوا زمام أمة محمد عساه انقضب
قلت الله يخلّي خشوم النسا للزمام
في شرقنا تنقص الثروة وحجم الغضب
ويزيد رقم النصايب جنب رقم الخيام
فخامة الريّس أعيانا الرجا والتعب
حتى أصغر أحلامنا ما هي على ما يرام
فخامة الريّس آخر شي عندي طلب
تسمع من اللي فتح لك قلبه آخر كلام:
لو فيه عشرين حاكم من «سوار الذهب»
ما كان قلنا عروبتنا عليها السلام!!








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق