بقلم: علي المسعودي
الحزن يتأصل في العنوان ..
" السمفونية الرمادية " ..
اللون المحايد .. الأبيض وهو يتمدد نحو السواد ..
استحضار لروح السيمفونيات .. والربيع الحزين فيها .. والضحكة الجنائزية !
يبدأ العنوان بتلميحات الشحوب , لكنه يوقع في النفس وقعا مثل ختم الرسائل .
مثلما تريد الشاعرة تماما .. تصنع في القلوب ..
" يا أحبابي " ..
بهذه الخطابية الودودة , والشكل الحواري الشفاف , تستهل سعاد الصباح
قصيدتها , مقترحة حضورا مستمعا قبل أن يكون قارئا.
مناداة بالمحبة , ثم تبرير هو بمثابة تقديم .. يؤسس لحزن آت عبر فرح اللقاء
الأول عند كلمة : "يا أحبابي "
التبرير " كان بودي " ..
بسط للمودة , وندم ندي ,
" كان بودي أن أسمعكم " ..
هذي الليلة " ..
تبدأ الحكاية .. الشاعرة وأحبابها , المتحدثة ومستمعوها .. شهرزاد ..
والقتلة الذين يطاردونها :
" يا أحبابي ..
كان بودي أن أسمعكم
هذي الليلة , من أ شعار الحب " ..
هو ما اعتاده المتلقي من شاعرته الأثيرة .
هو ما عرفه من حب متلاطم في قلبها , وما أيقنه من جمر متأجج في موقد
قصائدها .
ليست الشاعرة – الكاتبة .. فقط هي صانعة الحب , التي دوخت القلوب بهممها
الحار , وحرفها الدافىء .. ونطقها الأخاذ ..
لكن المرآة بشكل عام .. تنتمي إلى هذه الخريطة , الخريطة التي يتمدد فوقها
ماء الحب المسكوب من قلب المرآة , من شفتيها , من حنانها وتوقها المستمر إلى حديث
الحب .
" فالمرأة من كل الأعمار
ومن كل الأجناس
ومن كل الألوان
تدوخ أمام كلام الحب "
لم تستثن
الشاعرة امرأة .. من هذا التعميم , فكل امرأة مهما كان عمرها , مهما كان جنسها ,
أو لونها .. " تدوخ " بكلام الإحساس اللذيذ ..
تأخذ الشاعرة الكلمة من ذروة التعبير , وقمة الصياغة , وأقصى التفاعل
الإنساني .. ليكون الرصد الدقيق والعميق لرد فعل امرأة تسمع كلام الحب ..
" تدوخ " .. بحرارة الحب ..
تسمعه وتتلمسه , تتنهده , وتتنفسه , ترتكبه .. وتركب موجه دون أن تعرف أين
ستتجه ؟ إلى الغرق , أم إلى بر الأمان .
المهم أن تعيش من روحي دوامة الحب .. دوخان اللحظة ..
" تدوخ أمام كلام الحب ..
كان بودي أن أسرقكم بضع ثوان
من مملكة الرمل , إلى مملكة العشب " .
وهي الشاعرة التي اعتادت أن ترش مناطق الصيف بشتاتها , وتهدي للشرفات
ربيعها .. هي الشاعرة ..
التي اعتاد مستمها أن تخرجه من " الرمل .. إلى العشب " ... من
الجدب .. إلى المطر , ومن الجفاف ..إلى الاخضرار .. لكن الألم الثقيل يمطر فوق أرض
اللآمال فيحولها ركاما .. طينا ووحلا .. لكنا في عصر عربي
فيه توقف نبض القلب ..!!
ليس هذا وقت الحب إذا , ولا حضور لاقتراح " الحب في الحرب " ..
فالجدب ينتشر في الضلوع , وتتشابك عظام المأساة , حتى تخنق القلب .. ويسقط
بعروق نازفة , باكية :
" يا أحبابي :
كيف بوسعي
أن أتجاهل هذا الوطن الواقع في أنياب الرعب ؟
كيف بوسعي
أن أتجاوز هذا الإفلاس الروحي
وهذا القحط .. وهذا الجدب ؟"..
يتصاعد الحزن شيئا فشيئا .. كنا قد حضرنا باقتراح .. أن حفلة أنس ستكون في
هذا المكان .. لكن اختيار الشاعرة كان شكلا آخر من اللوعة ..
جذبتنا بكلامها اللذيذ .. " يا أحبابي " ..
سحبتنا إلى مغادرة الحقيقة .. حيث الكنوز المفقودة دون أن ندري .. لم نكن
نعرف أن كل هذه المسروقات في مغارة " علي بابا " هي آلامنا وأحلامنا
وقصص حبنا وكرامتنا .. لم نكن نعرف أننا لا يجب أن نعشق ونشتاق في زمن يفترس الشعر
, ويحولة إلى نعي كامل وتام .. للفرح .
تجيد سعاد الصباح كعادتها وصف المشهد , بإخراج بارع , وسيناريو متقت ,
وحوار خاص يقع في كل نفس موقعه الأخاذ , والموجع .. تكتب بالدم .. قبل الحبر بمداد
الدمع , وبشهقة القلب .. بلوعة الفؤاد .. تكتب فوق الأجساد .. لا على الورق .. على
الأرواح .. لا على المكاتب .. تكتب .. كأنما تجهش : " يا أحبابي :
كان بودي أن أدخلكم زمن الشعر لكن العالم – واأسفاه – تحول وحشا مجنونا
يفترس الشعر ..
يا أحبابي :
أرجو أن أتعلم منكم
كيف يغني للحرية من هو في أعماق البئر ؟
أرجو أن أتعلم منكم
كيف الوردة تنمو من أشجار القهر ؟
أرجو أن أتعلم منكم
كيف يقول الشاعر شعرا
وهو يقلب مثل الفرخة فوق الجمر ؟ " ..
وهو زمن الشواء إذا .. لا زمن الشعراء ..
هكذا تنعى سعاد الصباح الشعر , وزمن الشعر بتوليفة حزن بري .. يصهل في كل
الميادين . توليفة من كلمات الندى .. وكلمات القتل الوردة .. والمشنقة .. بئر
الحرمان .. والحرية القمح .. والجوع .. الحب .. والقتل تجمع سعاد بلغتها الشفافة , والغاضبة معا كل
هذه الأضداد , لتترجم إحساسها بنهاية الشعر . إنها أشبه بحفل تأبين لقتيل الأمة ,
ومشهد شعري للمسير في جنازة الفقيد , الذي يحب أن يدفن .. في زمن الفوضى
واللاترتيب .
هكذا تنعانا سعاد إلى أنفسنا , بهذا الكلام الموجع الذي لم نعتده منها ,
وكم آلمنا أن نكتشف كل هذا الحزن .. في قلب سعاد .
وكم أحزننا .. أن نعود منها بلا قصيدة حب .. بلا ضفائر , ولا حمام , ولا
قبل , ولا أحضان , ولا أشواق .. كم أتعب قلوبنا .. أن نذهب إلى سعاد الصباح , ولا
أحد منا يطوق خصر حبيبته .. أو يهمس في أذنها مثل شجرة تحضن عصفورا من برد الشتاء
.
" يا أحبابي ":
لا هذا عصر الشعر , ولا عصر الشعراء
هل ينبت قمح من جسد الفقراء ؟
هل ينبت ورد من مشنقة ؟
أم هل تطلع من أحداق الموتى
أزهار حمراء ؟
هل تطلع من تاريخ القتل قصيدة شعر ؟
أم هل تخرج من ذاكرة المعدن يوما قطرة ماء ؟":
تنتهى السيمفونية الرمادية .. التي تضمها مجموعة سعاد الصباح الشعرية
" خذني إلى حدود الشمس "..
ومن هنا نعرف شوق سعاد إلى الخروج من هذا المكان , والطيران إلى أقصى وأبعد
فضاء .
الى منبع الضياء .. إلى وهج العطاء .. إلى الذوبان الأبدي الذي لا رجعة فيه
" الشمس " .. حيث لا ظل للأشياء , ولا تزوير في أشكالها وحقيقتها .
هناك في حدود الشمس يمكن أن ننسى كل هذا الترويع .. تختم سعاد الصباح قصيدتها
:
" تتشابه كالرز الصيني ..
تقاطيع القتله
مقتول يبكي مقتولا
جمجمة ترثى جمجمة
وحذاء يدفن قرب حذاء
لا أحد يعرف شيئا عن قبر الحلاج
فنصف القتلى في تاريخ الفكر ,
بلا أسماء " ..
وهكذا نختتم عزف الرماد , وحزن الجمر , وانطفاء النار ..
نار الحب ..انطفأت وتحولت إلى رماد ..
وقد عزف الرماد سيمفونيته .. ثم نفخ فيالجلادون .. وطار في الفضاء. عله
يبلغ الشمس .. ويعود جمرا كما كان .. وفي أوردة الجمر , قد تنبض الحياة من جديد ,
يتحرك في قلبها كائنان ينبضان وينهضان ليتعانقا من جديد , ويرسما شكلا طازجا للحب
..