الجمعة، 23 أغسطس 2013

بدر بن عبدالمحسن اشكاليات الحزن والغربة (2-2)

دراسة بقلم : علي المسعودي 



 4- لقاء له طعم الوداع:

«هات جرحك.. واتبعني».
قلت لنفسي وأنا أهمّ بالانطلاق إلى «العينية» المنطقة التي تبعد حوالي 40 كيلو متراً عن الرياض، حيث «الخالدية» مزرعة الأمير بدر بن عبدالمحسن، التي تحتضن جانباً من الجبل.
كنت أستعد للبحث عن مدن مسافرة داخل ذاكرة، عندما حضّرت «عدة الشوق»... وذهبت في سفر إلى بدر بن عبدالمحسن.
كنت بعثت إليه بعض أسئلة... فجاوبها «شعراً»، في بادرة هي الأولى منه، نادراً ما تحدث في الحوارات.
هو شعر «لا تعيه إلا في اللاوعي»... ويستحسن أن تسمعه بصوت شاعره «البدر» حتى ينجلي ظلام المعنىويحسن بكإن قرأتأن ترفع جسد الحروف لتجد روح المعنى.
أطلت بوابة المزرعة الكبيرة... مكتوب عليها «الخالدية» نسبة إلى سمو الأمير خالد ابن الأمير الشاعر.
جلست بقرب الأمير بدر في العريش المرتاح على كتف الجبل في العينية... كان وجهه يشي بعلامات الرضا والارتياح... والمحبة.
كنت متيقناً أنني على أعتاب لقاء له طعم الوداع... وها أنا أكتب الآن «كمن ينتحب على ركبة السطر... بدموع من طين»، كما تقول غادة السمانفكأن الحبر كالعطر... يعيدنا إلى أزمان أخرىأو كما قال محمود درويش «رائحة البن.. جغرافيا» كل غليان قهوة يأخذ إلى بشر، ومنزل، وعمر، وذكريات.
وهكذا هو شعر بدر... يأخذك إلى بيت، إلى حبيبة، إلى آباء وأمهات لا تعرفهم... وكانت مصادفة محضة، وأنا أودع النهار في منتصف القدوم من الكويت إلى الرياض، أن أدس شريطاً في آلة تسجيل السيارة... لينطلق صوت محمد عبده بكلمات مهندس الكلمة:
«فالليال الوضح
والعتيم الصبح..
بان لي وجه الرياض..
في مرايا السحب»..
هاهو وجه الرياض يتبدى... فنقرأ فيه ملامح وجه الشعر الذي صاغه شاعر نقش العصافير.
كنت أريد لرئتي أن تكتشف فرحة الأوكسجين... كنت راحلاً لصيد الرعشات في جسد القصيدة... فما أجمل أن تلدغ من جحر الشعر مرتين.
رأيت البدر... مرتاحاً وبهياً... وأنا على يقين أن لا أحد يستطيع أن يسرق من جناحيه الأفق، وإن ابتعد، وإن صمت... وإن برّر الصمت والابتعاد.
بالقرب منه جلست... وهو يتحدث بلغته وطريقته في التعامل مع اللغة التي يعرفها الجميعيكرر الحرف الأول من الكلمة أكثر من مرة... ثم ينطلق في حديثه الشجي، ثم يضع فاصلته المعروفة التي تأخذ السؤال: «أنت عارف»؟!
كانت أصابع الماء الشفافة تتحسس نوافذ الغرفة بفضول الانسكابوكنت بالقرب من المدفأة الشتائية التي تنتظر البرد... بينما ترتصف بالقرب منها دلال القهوة وأباريق الشاي المعطر.
كنت أعيش بقربه في أعتاب القرن الحادي والعشرين، برومانسية من القرن التاسع عشر... لا تتخلى عن نبلها وشموخها وجمال الحزن فيها.
بعد ساعة ونصف ساعة من الحديث عن الشعر والصحافة، والأغنية... عن الناس، قمنا... تقدمنا، وهو يحمل عصاه... ورحنا بين أزقة المزرعة الجميلة... نلتقط صوراً مع الرمان المتدلي من الأشجار، ونسأله عن جودة الفواكه في المزرعة... فيجيب: «أضمن لكم أشهى الرطب في مزرعتي... غيره لا أدري».
ودّعناه، على أن نعود في اليوم التالي... ونجري اللقاء.
دخلنا «الخالدية» في اليوم التالي عصراً... كان يشرف بنفسه على ما لم يكتمل من أجزاء المزرعة الشاسعة، يعطي التعليمات، ويطلب بحسه الفني ألواناً نادرة... يخلطها في خياله، لينفذوها فتشع على الجدران اليابسة حتى تحولها ربيعاً زهياً، أو صحراء ممتدة.
كنا نحاوره، ونحن نحاذر من النسيان مرة... ومن الذاكرة ألف مرة!
«اشطبيني ألف ذكرى.. واكتبي
اللي يتذكر.. غبي
واللي ما ينسى.. غبي
ودي أشوفك.. باقي لحظة
هذا كل اللي أبي».


5
       حوار الماء:


في المرايا.. وجهي اللي تمليت
آه يا وجه المرايا
أنت أنا.. والاّ سوايا
محدّ خذا وجهي
لبسوني قناع
ينسكب حوار الروح مثل حوار الماء، مرناً، جذاباً، ومتشكلاً مثلما تريد اللحظة.
يمكن أن يبدأ هذا الحوار منك... أنتهاء إلى الآخر، ويمكن أن يبدأ منه إليك.
في حالة مثل «بدر بن عبدالمحسن» الشاعر تختلط الأوراق عندكفحوارك الأول معه، هو حالة إكتمال لحوارات سابقة كثيرة.
كل الأدباء تحاورهم لتعرفهم.
لكن «بدر بن عبدالمحسن» تحاوره لتعرف نفسك.
لذلك ينتهي حوارك معه، ولن تعرف متى بدأ.
إنك تحدثت معه طويلاً من خلال حديثك عن نفسك، وأنت تركب موجة شعره.
وعندما قال:
«أرفض أني أموت في قلبك
ولا درى بموتي أحد
حتى أنا»!
لم يكن يتحدث عن حبيبة فحسب، بل عن حياة، ورؤى، وصداقات، وشعر.
أنت لن تحيا، إلا عندما تقاتل موتك... الموت الذي يترصدك من كل جهة.
يترصد عينيك اللتين تطالعان أمل الحياة.
يترصد قلبك المحب.
يترصد حبك للناس.
يترصد وهجك بالحياة.
يترصد أصدقاءكيترصد النقاء فيك.
وهكذا يكون «درس الشعر».
يكتب الشاعر ليحيينا، ليمنحنا فضيلة النضال الداخلي.
هذا شعر برتبة صاحب سمو.
وصاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن، لم ينتج إلاّ شعراً يشبهه... ويشبهنا بالقدر الذي نرتقي إليه فيه.
سموه ينبع من ذلك التميز الفريد في تواضعه وحديثه المرن السامي.
سألت كثيراً، وألح فضول السؤال أكثر مما يجب، ولم يكن يمنعنا إلاّ حرج الجُمل والإحترام، ولم يكن يردّنا إلاّ فرط كرمه في الردود... التي كان من الصعب نقل فلسفتها.
بدر بن عبدالمحسن يرى الشعر أشبه بنحت يمكن أن تراه من أكثر من جهةومن كل جانب تتشكل وجهة نظر مختلفةوكل وجهات النظر صحيحة... وإن اختلفت.
وهكذا كان النقل المباشر والحي للحديث معه.
وتحدثنا إليه عن حالة الوفاء الفريدة التي نلحظها ماثلة حية أمامنا، ونحن نذهب كل مرة ونعود بعد سنوات، لنجد أصدقاءه هم كما هم، لم ينقص منهم أحد إلاّ ما كان خارج إرادة الإنسان على البقاء فوق وجه الأرض.
بدر بن عبدالمحسن لا يغيّر أصدقاءه ولا يتغيّر عليهم، فهموه جيداً، واستوعبوا إختلافه... وإن غاب عنهم أو غابوا عنه، فإن الغياب لا يكون إلا بحضور طازج وقائم على عدم التلوّن أو الإختلاف.
صرح بدر بن عبدالمحسن كثيراً عن فكرة التوقف عن النشر، وملله من الحضور الشعري.
لكن تلك التصريحات عندما تقرأها، لا تشبه ما تسمعه منه عند ملاحظة الإحساس.
الكلام لم يتغير... لكن الإحساس يختلف تماماً.
لا تلحظ تذمراً أو يأساً أو مللاً في حديثه وإن تحدث عن اليأس والملل.
إنه مدينة محصّنة... وما يقوله ملاحظات تستوجب الأخذ بالإعتبار.
بدر بن عبدالمحسن... زارع فرح، وباذر أمل، وممطر بهجة.


6 -  من ينصف الشاعر؟


من حق الشاعر أن يرسم وجهه بنفسهقبل أن يطرّزه النقاد على هواهم ويخترعونه من جديد.
من حقه ألاّ يسلّم نفسه إلى مباضع الناقدين.
من حقه أن يظهر على المسرح بشكله ووجهه الطبيعيين... يتوجه إلى الجمهور مباشرة من غير وسطاء، وإعلانات حائط وشبّاك تذاكر.
من حقه أن يستغني عن خدمات التراجمة، والأدلة... ويتجوّل في مدينة الشعر وحده، فما دام يملك صوتاً... فلا حاجة له بكل أشرطة التسجيل.
هناك شعراء يعرفون قدر أنفسهم... هم كبار، ولعلّ أكثر ما يزعج الناس (كما يقول العقاد): «أن تكون كبيراً، يفرحون بخطاياك، ولكن حسناتك تحزنهم لأنها تكشف عجزهم، وعلوّك عليهم».
وعندما قال المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
وعندما قال:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لم يكن يعبر عن غرور داخلي... بقدر ما كان يعبّر عن إحباط عميق... من الناس.
وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وارتمى في فم الزمان، وأتعبته نفسه «الكبيرة».
من حقه أن يرسم وجهه كما يراه هو، ومن حقه أن يقول ذلك... كما من حق «بدر بن عبدالمحسن» أن يقول:
يا سيدي والله ما شوف الانداد
أنا وحيد الشعر ما خلق ثاني
في زمن عدم الإيمان بالآخرين ومحاولة التجاهل والصدود... ومادام الأمر كذلك فلن ينصف «بدر» سوى «بدر» نفسه.
إنه انفجار الشاعر... والشعر دوماً لغم مؤقت ينتظر الوقت المناسب.
... أما إن لم يفعل الشاعر ذلك... ويستسلم للأمر الواقع فإنه سيعود إلى القبول بكل هذا الإحباط ويردد: «ليت الفتى حجر»!!

 7 - لحظة حلم.. لحظة حياة:

«الإخلاص  للحلم.. هو إخلاص للحياة».
واليد التي يحرّكها قلب ينبض بالإحساس، وعقل يمتلئ بتفاصيل دقيقة عن ضرورة الوجود بشكل فعلي، شاعري، إنساني، تظل حتى النهاية مصرّة على الإمساك باللحظة التي يبدأ فيها تحويل الأحلام من منطقة الخيال الى منطقة الأمر الواقع.
وبدر بن عبدالمحسن الذي قال يوماً: «عيوني تشوف النجم.. وتكزّه».
يدرك تماماً أن «الراحة» هي منتهى الحلم، وأن الصفاء الذهني هو أجمل ما يسعى إليه الإنسان، لذلك يظل الشاعر ممسكاً بطموحه الجميل بكل ما أوتي من شفافية وإخلاص لأدبه الشاسع.. المتنوع ما بين الشعر والرسم والمقال والرواية.. والحياة، ليكون منعطفاً مميزاً في تاريخ الشعر العامي في المنطقة.
هذا المسا للحب
للشوق
للمواعيد
هذا المسا لك أنت
مهما تكون بعيد
مدري سحابه.. شال؟
وإلا شعاعه جيد؟
هبّ النسيم ومال:
خصرٍ من التنهيد!!
وكلما هبّ شعره مالت غصون القلب، كلما جاء مساءٌ بأمسية له كلما كان المطر هو حديث الحروف المنهمر، هو درس الشعر الدائم، وهو ملاذ المحبة الصادقة، البدر الذي يقترح على الشمس ألا تغيب، والذي يعطي الليل ألقه الخاص، والذي يمدّ الحب بلهجة الأمل، والذي يجعل للنور طريقاً مباشراً للقلوب، والذي يدور في فلكه فضاء الجمال..
نذهب إلى شعره.. ليتوهج المدى، وترتفع هامة المعاني:
على المدى وتحت الرماد
واهج جمر..
تصيح اللهفة.. وتصبح المسافة بين التنهيدة والقلب.. أقرب وأجمل..
هي قصة الحلم.. وتحقيقه...
قصة الليل.. والنهار..
يقول بدر بن عبدالمحسن في قصيدة «قصة الليل والنهار»:
لن يقهر البحر في عينيك.. من أنا لأقهر البحر
ولن تهزم الشمس في جبينك.. من أنا لأهزم الشمس
لن تيبس الغابات.. يجف الغيم.. وتنطفئ النجوم لمجرد أن شاعراً توقف عن الغناء.. وخان الجمال... والحياة..
دعيني أكتب لك.. عن وجودك داخلي.. ووجودي خارج الأشياء..
أكتب عن الغربة الممتدة بين الضحك.. والبكاء..
وأنا أطفو على ماء راكد.. أسافر في السهول المزروعة بالعشب الميّت..
وأستلقي على عظم قصائدي العتيقة.. لن أكذب علي.. فأنا لست فرحاً..
ولن أكذب عليك.. لست فرحاً.. ولا حزيناً..
لا أريد أن أكتب عن الألم.. ملعون هو الألم..
ولا عن الحزن.. فليذهب الحزن حيث يشاء..
وأتخيلك كما أشاء.. وحيث أشاء.. أنا ما عرفتك إلا باسمة..
وما سمعتك إلا محبة..
وهكذا تظلين في خاطري..
عندما هربت من حجرات صدرك الدافئ في هذا الشتاء القارس..
وتركت الباب مفتوحاً للبرد والمطر.. كنت أعلم أنك ستغلقين الباب
بصمت.. ولن تسألي المارة عن طفل نحيل.. هرب من مواعيد نومه..
وطعامه.. كنت أعلم أنك لن تنسي قسوة الريح.. وجراح المطر..
لو أخبرتك برغبتي في الرحيل ولم أخرج وأترك الباب مفتوحاً.. لربما
كانت جراحاً.. ولوجدت لي عذراً... ووهبتني معطفاً من سماح..
لن يقهر البحر.. ولن تهزم الشمس.. وها هو يعود الطفل الضال
يقرع باب صدرك المغلق.. بقبضته الصغيرة الواهنة..
افترق عاشقان.. أحدهما سكن الليل... والآخر النهار..  وكانا يلتقيان عند كل غروب وشروق دون أن ينظر أحدهما للآخر..
وكان الناس يعيشون قصة الليل والنهار.. الحب والمستحيل..
انتهت القصيدة.. لتبدأ تراتيلها.
فالإخلاص للحلم.. هو إخلاص للحياة.
واليد التي تكتب... يحركها قلب ينبض بالإحساس، وعقل يمتلئ بتفاصيل دقيقة عن ضرورة الوجود.


هناك تعليق واحد:

  1. ما أجمل حروفك استاذي , بس الصورة تغطي على بعض المقال :( ايش الحل

    ردحذف