دراسة بقلم: علي المسعودي
1 - الصوت:
صوتك يناديني.. تذكّر.. تذكّر
يحدث أن تستمع.. فيجرحك الشجن!
يحدث أن تتسلل من بين الأشجار كي تعثر على الصوت الذي تعثّر به قلبك، فتتقمص خفة النمر وتخفض أنفاسك... لئلاّ تشوّش على الصوت وهو يعيد صياغة الكون من حولك.
ويحدث أن تسمع لبدر بن عبدالمحسن وهو يقول:
«كتبت اسمك..
على صوتي»
فتنقلك الصورة الشعرية من شعر الشاعر، إلى صوت الشاعر.
فهناك قصيدة أخرى تتشكل بشكل آخر من خلال هذا الصوت.
والصوت مثل الشعر... طبقات.
منه المجتزء والمحدَث والحالم والمكثف والخاطف والمبهر والعميق، والغزير...
وفي صوت «البدر» غزارة قصوى.
حضرت له أكثر من أمسية.
وخرجت من كل منها بشريط.
وأكاد أقول أن أغنية للبدر- أي أغنية- لم تستطع تعزيز نفسي بالشجن والحنو والفرح الطاغي... بالقدر الذي استطاعت قصيدة يلقيها بصوته.
وللشاعر- الظاهرة... بصمة في صوته لا تغيب.
بدر بن عبدالمحسن لا يمثّل وهو يلقي، ولا يحاول الانفعال، ولا يستحضر الحلم... أو متطلبات المنبر.
بل يترك صوته طليقاً يتنقل بين الاحساسات بحرّية تامة.
وفي هذه الطبقة الصوتية التي تتوسع وتغالي بانغراسها في القصيدة لا تلحظ تلويناً، ولكنك تشاهد التفجر الشعري ينهال في الكلمات الصادرة المحمولة على كتف الصوت.
حتى لكأن الصوت يجرفك في حنينه المدمّر.
صوت الشاعر جزء من وزن قصيدته وقوانينها وغنائيتها وموضوعها.
«آه يالعطش
جفت شفاهي
وصوتي الواهي ارتعش».
ينال منك ويجزّ وريدك بلطف مميت!
هناك قصيدة مخبأة في صوت البدر وهو يلقي قصيدته.
هي قصيدة مثل الموسيقى... تتناثر بحروف الذبذبات وأبجدية الأوتار.
تحاذر أحياناً من الاستماع، لأنه سوف يصيب شغافك.
فيحدث أن تستمع لبدر بن عبدالمحسن وهو يلقي قصيدته فيجرحك الشجن... وتستعير خفة النمر كي تخطو في اتجاه القصيدة دون أن تشوّش خطوط الحلم.
2 حزن الدائرة:
«وحدي وغديت أنت الزحام
وحدي أبد.. وأنت الكلام..
نورك.. وما غيره ظلام!!»
أي قسوة يبلغها حزن الدائرة؟
أن تبدأ المسير، ثم تكتشف أنك تنتهي إلى النقطة نفسها التي بدأت منها.
تسير في خطّ منحن، يجتمع على بعضه، تمتزج كل البدايات مع كل النهايات في دراما إنسانية لا يمكن فصل المخلب فيها من تشابك الصوف!
يتكور الجنين في دائرة الرحم، موعوداً بالخروج إلى دائرة أوسع.. لكنها أكثر قدرة على توفير الاختناق!
أنت نقطة.
طموحك دائرة.. تكوّنها نقاط بعيدة عنك، لكنها متلاصقة بلا أبواب.
النقطة تكبر.. إذ تنطلق في تحقيق الطموحات.
تبدأ الدوران حول مركزها... تحقق طموحاتها شيئاً فشيئاً، وكلما نالت حلماً ارتفعت إلى مجال أوسع.
النقطة تكبر.
حتى تلامس سطح الدائرة من الداخل.
عندها..
عندها فقط تشعر بالاحتكاك المرعب.
هل تعود النقطة إلى بدايتها؟
ذلك يعني أنها ستصغر.
الكبير.. لا يقبل أن يصغر.
تمارس احتكاك.. الاحتجاج.
عندها..
عندها فقط.
إما أن تتسع الدائرة، فيكبر الطموح... وتنطلق النقطة في التحقق مرة أخرى.
أو أن تنكسر الدائرة.
لابد للدائرة أن تنكسر!!
الحصى الذي في يدك، لن يفعل في الماء الذي أمامك أكثر من ذلك.
هذا هو حجم الدائرة، ولن تخرج الدائرة من إطارها. لابد -إذن- أن تكسرها.
لبدر:
يا رامي الماء.. بالحصى
لاجل الدواير.. تكبر
لا توجع الماء.. أكثر
هذي حدود.. الماء!!
يجيبك الهاجوس.. ويروح بك
يا شين... وش نفع الحكي؟!.. لاروح بك!!
تخط في الرمل البحر.. وترزّ وعودك سارية
وتبقى الحقيقة.. عارية:
ما عاد في السّفر.. إلا دواير!!
السفر... دائرة.
لم يعد إلا حال انتقال من نقطة مملة، إلى نقطة سبق المرور بها.
لابدّ من توسعة الدائرة.. أو كسرها.
ينتابك فجأة... الحزن المعتاد إثر التحضّر للسفر، وعلمك أنك ستعود قبل أن تعود!
وعلمك.. أنك ستختنق بعيداً.. ثم تعود لتختنق قريباً.
ذهابك.. عَوْدٌ؟
أنت ترحل منك.. إليك.
كيف تهرب من نفسك؟ كيف تسافر عنك؟ كيف تستطيع تغيير ما في حقيبة السفر دون أن تستطيع تغيير ما في حقيبة قلبك؟
الحقيبة.. لن تكون حديقة، وإن سقيتها بالدمع، بالدم، بالماء.. أو بالتذاكر.
تسأل.. كما يسأل بدر بن عبدالمحسن:
هذا وجهك يالمسافر.. لما كانت لي عيون؟
مدري باكر هالمدينة.. وش تكون؟
النهار.. والورد الاصفر.. والغصون؟
ابتسامة الفم دائرة.
الحزن... حسنٌ يحاصره الجفاف.
تفاجئك ابتسامة الغصن.
يقول البدر:
غصن يابس.. فمك
وانكسر.. بسمة!!
لا أضلاع.. في الدائرة.
لا زوايا..
لكن.. لا أفق ولا أقفال أيضا!! بلا دائرة!!
3 - في أرض منخفضة:
«المنزل ثلاث جدران
ورابعْ...
ما بينهم ضايعْ
متشقق وعاري
ويميزه شباك، ضيقْ
مصبوغ.. بالأحمر الناري
ومحاصر بأسلاك..
عِلْقت بها وردة
أوراقها المنزل.. والبرعم الأفلاك؟»
هل هي «الملهاة» التي كتب عنها شكسبير؟ أم هي «الحياة هي في مكان آخر» التي وصلها «ميلان كونديرا»؟ أو لعلّها «فوضى حواس» أحلام مستغانمي؟
قد تكون الحكاية أكبر من ذلك بكثير، حتى أن الحديث لا يمكن أن يكون «عنها» بقدر ما يكون «حولها» أو مما «توحي به».
«بوّابته على الطريق الرملي..
صفت أحجار درجها.. بصبر
وش كنّها؟
سنونٍ صفر:
في فم مذهول!!
وظلما تشدّك للدخول
تشدّك
وكل ما مسكت أكرة الباب النحاس
بيدك
تلطخت بدمٍ طري
الجرح نزفٍ يحتري
أما الطعون..
وين الطعون راحت؟»
قصيدة مشبعة بما يوحي، إذ لا توصلك إلى الباب مباشرة ولكنها تشرحه لك، ونادراً ما تسلّمك المفتاح.
في قصيدة «الجدران» لوحة منفذة بالألوان الطبيعية: الفحم والدم واللون الناري والرمل والخشب، وأيضاً: لون النهار، ولون العتمة واللون المعتق والجدار المتشقق.
«وفي الركنْ
كرسي خيزران
يجلس عليه الوقت
وجريدة «عنوانها باهت.. تغفى على الإسمنت»!
الحديث يدور في الجدران، يصف ما فيها، ويرصف معانيها، لا لكي تظلّ حبيساً فيها، بل لتنطلق وراء الأنفاس التي تركوها ورحلوا...
«مرّوا على مهلهم..
وما صادفوا غير الحياة»..
ولك أن تختار ما تنتمي إليه، وما يتماهى فيك: الجدران... أم ثقب الجدار الذي شقه يوماً «أمل دنقل»... كي تبصر من خلاله النور من قلب الإسمنت المرتفع في وجه الشمس!؟
الكوكب اللي تقول الناس: «يا صغره»!
من كثر ما هو بعيد وشوفهم قاصر!!
لذلك لا تثقوا بأنظاركم، ففي الأبصار مراوغة تخدع البصيرة أحياناً.
ما ترونه حقيقة... لكنها «حقيقة بعيدة»!!
وقد قال بدر بن عبدالمحسن مرة: « إنني الأطول قامة... لكنني أمرّ في أرض منخفضة»!!
هذا النور الذي تراه ليس هو الحجم الحقيقي للقمر، وعندما يصلك ضياء الشمس فإن وصول رسالتها لا يعني وصول الشمس إليك.
«شاعر» بهذا المعنى الموحي والشاسع يعطي بدر بن عبدالمحسن هوية الشجن للقصيدة التي منها البيت السابق، وكدت أتساءل: هل كان وهو يكتب القصيدة يذيب أصابعه فيها، ليتكون من هذا الذوبان «حبر الصوت»؟!
«يا صغره»... شخص يجلس في ناصية شارع، تحت عمود إنارة، يقولها وهو يطالع «الكوكب»!
ماذا يقول الكوكب وهو ينظر إلى الشخص؟
لنفترض مثلاً... من ذات القصيدة:
«اللي قليله قليلٍ.. فاض من كثره»!!
ليكن، فصدر شاسع تملؤه المعاني الكبيرة يطيق كل هذا الوجع.
لكن كيف يلامس كل هذا الكبريت، مع كل هذا الاحتكاك... جسد الأوراق، فلا يكون الاحتراق بهذا الهول؟
فلنقل إذاً... من القصيدة ذاتها:
«اللي كثيره قليل.. الجوهر النادر»؟
هي فرائد تزخر بالبرق والرعد... تصطفق في الغياهب، لتخرج مثل شهقة تشق صدراً، لتقول:
أصابعه، وإن حسبتوا، كلها عشرة
وأصابعه، وإن حسبتوا، مالها آخر!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق