بقلم: علي المسعودي
لم يشغلني شاعر بحياته وشعره كما فعل المتنبي , فمنذ
قرأت سيرته وأنا في نزاع مع نفسي حوله في عدة جبهات .. منه أحببت غرورا لشاعر واعتداده
المبالغ بنفسه .. وتقبلت بعدها بفرح غرور كل شاعر .. بشرط أن يعجبني شعر الشاعر
أولا .
منه عرفت أن
نظرتنا للشاعر من حيث تقييم شخصيته يجب أن تختلف عن
مقاييس المثالية التي نطمح إليها ( لئلا أقول : ندعيها ) وأخلاقيات الإنسان الكامل
التي نبحث عنها ( لئلا أقول : تنقصنا ) .
فالشاعر ليس
صديقا أو رسولا , فالرسول رسول , والصديق صديق , والشاعر شاعر ( أكرر لنصع المعايير
وفق أماكنها الحقيقية والمنعوتات في نعوتها ) .
لا نطلب من الشاعر أكثر مما يستطيع .. فهو يقدم نفسه كما
هي .. بفضائلها ونزواتها .. بتذللها وكبريائها .. بتصنعها وزيفها .. بانتمائها
لخلطة الإنسان كما خلقها الله تعالى :
الارتماء في الطين حينا , والانتماء لطهارة الروح حينا .
( مالي
الدنيا .. وشاغل الناس ) .. هكذا كان أبو الطيب .. وهكذا ظل . ومن شغله بالناس كان
منشغلا بذاته ( ربما أكثر مما هو مشتغل بها ) :
" إن
أكن معجبا .. فعجب عجيب ... لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا ترب الندى ورب القوافـــــــــي ... وسمام العدا وغيظ الحســــود
أنا في أمة تداركها اللــــــــــــــــه... غريب .. كصالـــــح في ثمـــود "
( كصالح في ثمود ) تزكية ذاته التي جرت عليه الويلات
فكانت تسميته : ( المتنبي ) .. وإن سأله بعض المغتاظين لتوريطه : على من تنبأت ؟
فورطهم بإيجايته : تنبأت على الشعراء !!
لطالما شلتني كبرياء الشاعر فيه ( وإن قلت الإنسان كنت
أقرب إلى الدقة ) .. ليس فقط لأنه قال :
وإذا كانت النفوس كبارا ....
تعبت في مرادها الأجسام
وما شاكله من أبيات فخر الشعر
بالشعر .. أو فخر الشاعر شعرا بذاته .. من نوع :
بنْت الثريَّا في ثرى الريف تختــــا ل .... ماكنّها
الاّ وحدها ِبنْت عَيلــــــــــــه
ملسونة الأقوال مغرورة أفعــــــــــال .... تمشي على روس الأصابع ثقيلــــه
فستانها الزهري وبَـــكًَْـلــه وسلسا ل... والكْعب عالي في الشرارع صليلــــه
والشََّّّّّّّعــــــر كنّه يشتكي بعْض الاهما ل
تقول خيلِ
ينِفضْ الَسَبْق ذيلـــــــه
وان مال مِلْنا وين ما شَعْرَها
مـــــــــال
لوهي تحنّ
قلوبنا ما تميلــــــــــــه
والوْرد من بستان وجناتها ســــــــــال
وقّــف على
حُمْر الشفايف مسيلــه
من زينها صارت عن الارض تنشـــال
وكل ِ تمّناها
لقلبــــــــة خليلـــــــــه
حلوه ودلّوعة حكي مترفة حــــــــــال
في بيت موضات
التباهـــي نزيلـــه
أحيان نلمَح من ورا الباب بنطــــــــال
وكــلِ إذا
شافه يعــــلّــــم زميلــــه
يمكن خَيال ويمكن يكون شي ... ال
غــريب عنّـــا
ما درينا أش مديلــه
افكارمـــا
تنقال وأفكـــــــــار تنقـــــــال
يــا
اخي وتفكيرك منـيـّــل بنــيلــه
واذا انقفل باب التلاشـــــي بزرفــا ل
فرحة عيال
الريف تمسي قتيلـــه
كانت إلى مّرت وهي تَلْفَع الشـــــــال
واصابع
الحِـنـّـا تشــــّد الجديلـــه
تراب شارع بيتها العــــذْ ب ينهـــا ل
بالعشب تحْت
اقدامهــا والنجـلــه
والباب مجدول العريش والاقفــــــال
تهتزّ
جدرانه ويقــــــَدح فتيلــــــه
والزهـْـر يرقِص واخضَر الغصْن ميّال
والشوق يقْطــِر
من ورود الخميلـه
حتى الحَمام إذا مشَت جّر مــــــــَّوال
شكي ولا
يدري لمن يشتكي لـــــه
اذا مشت يزهر ثرى , تعشِب رمْــال
وان وقّفت
وقفـــــاتها مستحيلـــــــه
كم عاشِق خّلتـْـه للطَرْق شـــــــــّيا ل
حتى الشيوخ اهل
النقا والفضيلـــــــه
ابوي في مـــّره لَمخ زولهــا قـــــال :
ما كـــّن هذي من
بنـــــــات القبيلـــــه
واذا عـَرفْهــا ,جّر صوته ب ( يالال)
يعرضِ وانا اشوفه
واسوّي مثيلــــــه
ويْـقول تاريخ الغلا يرسم أجيـــــــال
اجيال قــدّ ا مه وبـَعْده
وجَيلـــــــــــــه
نـثّـر غناوي فاقتــــه فوق الاطــــلال
واستقَرب
دْلالـــــه وبِــــنََََََََََّـــه وهَيلــــــه
( الِولْف يا سعدان ) ما جاك نقّـــــــا ل
لو ما يجي لك لازم
انـّـــك تجي لــــــه
قــَعــد يغــّنيها على كـــل
منـــــــــــوال
كــنّــه
يبرّر غايـــــــــتـــــــه بالوســيـله
ويْعيذها بالله من عْيون
الانــــــــــــذال
ويـْـقول ألايا
قـــــوّة الله وحـَـــــيـــلـــــه
( واعيذها بالله من عْيـــون الانـــــذال
واقول الا يا
قـــــــــّــوة اللـــــه وحَيلــه!)
ِبنْتِ خفيفِ ظِلّهـــــــــــا طيّبة فــــــــال
يا حّيها وَرْد
الصبــــــــــــــاح وْنخيلـــــه
بنتِ فـــعــا يلْهــا عن الفين
رجـــّــــال
وفزعاتها تسوى
مشــــــــــايخ قبيلـــــه !
ومهجة .. مهجتي من همّ صاحبهـا
أدركتُهـــا
بجـــــوادٍ ظهــــــــُرهُ حـَــــــــــــُرم
أو
أذا غامـــــــــرت في شرف مـــروم ِ
فــــلا
تقنـــــــــــــع بمــا دون الًنجـــــــَـــــوم
ليس لذلك فحسب شغلني المتنبي من ضمن من شغل , بل لأنه
الشاعر الوحيد الذي أعطى الشاعر كرامته وهو يمدح .. الممدوح .
هو الوحيد الذي كان يرجوه ( الكبار ) ليمنحهم شهادة
الكبرياء بقوله ..هو الوحيد الذي كان يرفض الوقوف أمام من يمدح.. فيلقي جالسا
متأهبا .. وإن كان مادحا .
هو الوحيد الذي أجلسه الأمير على كرسي الإمارة .. ثم جلس
على الأرض أمامه يسمع منه مديحه !!
وإن قال ما قال .. فإنه يعلي نفسه فوق من أعلى . فإن كان
قد أعلى شأن سيف الدولة في قصيدته :
"واحـــــــر قلباه ممن قلبـــــــه شــــــــــبم "
فقد ألقى قنبلته :
سيعلم الجمعُ ممن ضم مجلســـــــنا
بأنني خير من تســــــعى به قـــــــدم
دعك من نكتة سمجه تقول إن أحد الحاضرين أدماه بأن رماه
على وجهه . ودعك من قول مغتاظ له العذر في غيظه (
ذاك هو أبو فراس الحمداني ) , إذ قال بعد أن أعياه السبيل إلى انتقاد قول
المتنبي عن نفسه ساعة الحرب : لم أر له بياض سيف في سواد معركة .. لكنه ذو قول
بليغ " ..
أريــــــد مـــــن زمني ذا أن يبــلـــغني
ما
ليس يبلغـــــــــــــه من نفسه الزمــــن
لم يقل المتنبي ذلك من فراغ عقل أو فراغ نفس .. وهو
الممتلئ بكبريائه التي لم تخنه إلا مرة
واحدة عندما هجا من يستحق السكوت كفعل أدنى من الهجو .. فقال أسوأ شعره :
ما أنصف القوم ضبّه .. وأمــــه الطّــــــر طبـــّــــه
..
خانه القول ..
فكان أن ارتد عليه شعره : ( وعداوة الشعراء بئس المقتنى ) , فكان حتفه لا بسيفه ..
على يد فاتك الأسدي وأعوانه .
وفي أواخر رمضان من العام الأخير في حياة الشاعر خالد
السيرة .. كان موقف البطولة الذي يثبت فيه كبرياءه بالفعل لا بالقول .. إذ حذره
الناصح : ( إن فاتك الأسدي يعد لك ..
فاستعد له بالأعوان ) .. فكان جوابه وهو المقترب من ستينيات العمر : ( لم أكن
لأرضى أن يقال إنني احتميت بغير سيفي ) .. فمضى مع ولده وغلامه يجابه جيش الفاتك
.. إذ كانت النهاية موت الشاعر مقتولا بقوله .. وهنا تروى نكتة سمجة أخرى : إن
المتنبي هرب من جيش فاتك .. فقال له غلامه : كيف تهرب وقد قلت :
الخيل واليلل والبيداء تعرفنـــــــــــــي
والسيف
والرمح والطرقــــــاس والقلم
فالتفت المتنبي قائلا لغلامه :
قاتلك الله .. قتلتني !!
ثم عاد ليقاتل حتى قتل !!
هل لاحظت النكتة السمجة ؟
فالغلام قتل والمتنبي وولده
قتلا .. فمن الذي روى الحوار الذي دار بين الاثنين .. سوى المغرمين بتحطيم شجاعة
الشجعان ؟
ولطالما حلمت بكتابة رواية تحكي
قصة المتنبي تبدأ من اللحظة التي قتل بها فتناثر ديوانه في فضاء صحراء العراق ..
لتلاحق الكاميرا الورق .. وتبدأ الحكاية ( .... ) لكنني كنت أرى ( ومازلت ) أن
كتابة من هذا النوع أكبر من ثقافتي ولغتي , وقد حدث أن فرحت وحزنت في آن معا ..
عندما كنت أجلس في مكتب أحمد العساف قبل أربع سنوات نبحث في موضوع يضاهي نجاح عمل
( الزير سالم .. لممدوح عدوان ) ,فكان على الهاتف الممثل سلوم حداد إذ أخبرني أن
العمل المقبل هو : المتنبي .
فرحت انحيازا لشاعري الأثير ..
إذ سيتابعه كل أهل الضاد ( المفقودة ) فيلمسون روعته , وحزنت أن حلما بكتابه سيطول
أمدها , آن له أن لايكون .
لكن عمل سلوم حداد كان مخيبا
لأملي لفرط رداءته ، ومعززا في نفسي فكرة استحال الكتابة عمن تستعص شخصيته على
التقليد أو التقمص .
لكني مع كل ذلك لا أتمادى في
الإعجاب ليصل درجة الهوس .. فالشاعر كائنا من كان ومهما كان يظل بشرا قابلا للخطأ
.. تغويه نفسه بالخطيئة : ومما يؤيده الرواة أن المتنبي كان تاركا للصلاة والصيام
.. وفي شعره الكثير من الدلائل التي تعزز هذه الرواية .. فقول بليغ المبنى قميء
المعنى مثل :
أي محل أرتقـــي .. أي عظيم أتقــــي
وكل ما خلق الله ... وما لم يخلـــــــــق
محتقر في همتي.. كشعرة في مفرقـي !
لنفترض أن ذلك قول مواكب لفترة السباب ونزقها ..
فأين التوبة من القول الفجر ؟
وقد وصف كل أهل مصر بالكذابين
دون استثناء في قصيدته الخالدة :
عيد بأية حال عدت ياعيد
!
وقد عيرا بن كروس الأعور بما لا يجب أن يعيره به
.. وإن أجاد التحقير :
فيا ابن كروس يا نصف أعمى ..
وإن تفخر فيا نصف البصير !!
ذلك شيء قليل من كثير حول
المتنبي .. أكتب عنه من الذاكرة .. مما اختزنته عنه .. وعما تشتتت به نفسي بين
إعجاب واستغراب .. حول شاعر يستعص على الانصياع لرأي واحد في شخصه .. لكن ثابت
الرأي يتحدد تماما ... عند القول إنه شاعر لا يمكن لفرس شعره إلا أن تفوز بسباق
الشعر كله .. ما سبق منه وما لحق .
( انتهيت من كتابة كثير مما في
الذاكرة .. لكن التساؤلات والتحليلات أوشك أن أحسها : سردمية ) .