ابن نوطان المري .. خيال الشاعر.. هو حياته

شرفني أخي (أحمد) بطلب كتابة مقدمة لديوان والده الشاعر الراحل عامر بن نوطان المري أسكنه الله الجنة... فكانت هذه الخاطرة...

 

أصعد إلى "مشراف" أطل من خلاله على زمن قديم مضى وتلاشى، ومن الصعب أن يعود.

هو زمن قديم لكنه ليس ببعيد، من السهل تذكّره.. لكن من الصعب صياغته. ذلك هو زمن الجيل الجليل الذي عاشه الشاعر "عامر بن نوطان المري" رحمه الله رحمة واسعة.. ثم صوّره لنا في نفحات أدبية مكتوبة بأوردة القلب وشرايينه.

وأظن أن الحياة لايمكن أن تطاق بلا شعر.. فالشعر هو سلوى وحلوى الانسان العربي الذي عاش في المدينة وظلت الصحراء تعيش في قلبه، فهو يركب الطائرة و"يحدي"، ويقود سيارته فوق الاسفلت وينشد للناقة، ويمر بين العمران فيصف الذيب.. وهو "يقدع" الشعر.. ثم يكون للفنجال لذة "مع سيحة البال".. في الوقت الذي تراوده نفسه عن "فنجان ماله ثانيٍ بالفناجيل"!

وهو إما أن يهرب من المدينة حقيقة، أو يرقب منها شعرا حتى يصل إلى: (راس رجمٍ مربّ للوحوش).

بالشعر تصبح الحياة ألطف بكثير من الواقع، وبالشعر يعود بك "الهوى" العليل إلى ماتتمنى.. إلى ذلك الجيل الأصيل الجميل.. "يوم الليالي من هل الشر خالية"!

وعندما (طفت) في أشعار "ابن نوطان".. (طرت) إلى أماكن عاشها الشاعر فكأنه لفرط قدرته في التصوير أخذني إلى مرابع شبابه ومراتع صباه فوقفت عليها، وعشتها.. رجماً رجماً، باديةً بادية، حتى أنني أحببت ما أحبّ ومن أحب!

لكن هل يقول الشاعر كل الحقيقة في شعره.. أم يقول نصفها ويستبدل النصف الآخر بخياله..؟

 أقول: "عليك ألّا تصدق الشاعر ولا تكذّبه" فهو يخلط الواقع بالخيال ويعطيك جرعة احساسه، ماعاشه منه وماتخيله، ولن يستطيع كل جراحي الدنيا إجراء عملية جراحية تنجح في فصل جسد الشاعر عن خيال الشعر..

وأدلل على ذلك بهذا الكلام الذي أورده الأمير بدر بن عبدالمحسن ضمن ذكرياته عن طفولته في قرية الفوطة:

(كان من حقي وأنا طفل أن أتخيّل أنني الإمام تركي بن عبدالله.. أو عبيد العلي الرشيد، وحين أضع رأسي على الوسادة أحمل سيفي "الأجرب" وأفتح المدن وأحرر القرى وأخضع القبائل لكلمة لا إله إلا الله، أو أمتطي صهوة "كروش" وأخوض المعارك وأنا أشدو بأجمل حداء في الدنيا. كان بالإمكان أن يستمر ذلك الحلم لولا تدخّل هتلر ومونت جمري، وماك آرثر، ومعرفتي المفاجئة بالآيس كريم وأكسفورد ستريت!!)

انتهى كلام الأمير بدر الذي يشي بشيئين مهمين، أولهما هيمنة الخيال على جزء كبير من واقع الشاعر، وثانيهما أن الزمن انقلب على أهله فبتر كثيرا من الخيالات الهنيّة.

الخيال شجرة يستظل بها الشاعر.. ويقطف من ثمارها البلورية على شكل "أناشيد"

وهذا بالضبط مانقرأه في سيرة ابن نوطان الشعرية، فقد حلم الشاعر كثيرا.. حتى دخل من منطقة الحلم إلى الخيال.

يقول :

ياعين جوزي عن تذكار مامضى

اخذي النصيحة وافهمي في سؤاليه

ليالي فاتت صعيب رجوعها

في داعة الله يازمان مضى ليه

وقت يناسب لي ووقت يغيضني

ياما تكدر لي وياما صفا ليه

وعلى جمالية القافية النادرة في صوغها الشعبي حيثها تستلم شيئا من فواصل قرآنية وردت في سورة الحاقة (ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه) 28 ، 29 _ وهي من البديهيات في اللهجة الامارتية تحديدا.. إلا أن هذه القصيدة بالذات والتي حملت في الديوان عنوان "زهرة حياتي" تحمل تلخيصا دقيقا لحياة الشاعر (أو لأمنياته) مثل أراد أن يوصلها..

طربت نفسي يوم عجة شبابها

مع القلوب اللي عن الهم سالية

زهرة شبابي في هواهم قضيتها

يوم الليالي من هل الشر خالية

.. والأرجح أن الشاعر – كعادة الشعراء- (يتهنون بما يتمنون) في ما يلي من أشعار في هذه القصيدة الشفافة:

هذي تعاتبني وهذي تزورني

وهذيك باليمنى وذي في شماليه

... وفي قمة سعادة الحلم، وفي أوج اللهفة، وذروة سنام الهناء... لابد أن يحضر الواقع المقيت.. ليلغي مايحلم به الشاعر، سواء كان حلمه فتاة جميلة يدفئ يدها في يده ويدفن قلبها في قلبه، أو كان سيفا يحمله بيده.. وباليد الأخرى لجام فرس تجوب الأرض فتحا... جاء الواقع ليرسم وجها جديدا:

يوم اسمعتني نطقها من لسانها

جزيت باقي حبلها من حباليه

تقول شايب فايتك غاية الصبا

ما عذربتي كبرت في جلاليه

ويلخص الشاعر حياته بقول واضح (كم فرحت أيام وايام احزنتني)

وفي تتبع الإيماضات في هذا الشعر يمكن أن ترسم خطوطا عامة لحياة الشاعر وتنقلانه وأصحابه وآرائه في الناس والحياة على أن أهم ملمح من ملامح شعر "ابن نوطان" هو الوضوح الذي لاشائبة فيه ولا مواربة.. فهو أشبه بـ "حليب نياق".. لاتستطيع أن تفسره، ولو أمعنت في التفسير لن تأتي بجديد سوى أنه لذيذ جدا وممتع جدا ونادر وأنيق ومحبب وتشتاق إليه دوما.. حتى يكون تماما كما في قوله (يا من توزع بجسمي حبه الصافي)

والحب في شعر شاعر هذا الديوان اصطبغ بصبغة "الفراق" بشكل كبير، فكانت لوعة الوداع هي الأكثر حضورا في قصائده.. واتجهت غالبا اتجاها واحدا في مكان محدد وحادثة محددة تكررت بشكل أو بآخر في مجموعة قصائد حملت عناوين أو معاني متقاربة مثل: "الفراق المفاجي، الهجر الطويل، يوم شفت البيت، حل الفراق، حل المفارق، حلت الفرقى، حلول الصفاري، دنى الموت، شوف الديار الخلية" وغيرها كثير مما نثره الشاعر في مجمل حياته الشعرية من قصائد خصصها للوعة الفراق، ويبدو أن جزءا مهما منها تتابع وتركز في فترة معينة وزمن محدد من حياته.. والأرجح أن مكانها هو منطقته "يبرين" وما حولها.. وعلى الباحث عن التفاصيل أن يتتبع ماهناك ليصل إلى هنا!

ولدى الشاعر قدرة عجيبة ومذهلة على الوصف الدقيق والبسيط.. الصعب في الوقت ذاته، وهو يبدو أكثر مايبدو كمثال في قول:

(خذت منك شربةٍ ما عدتها لي

مثل سقي اهل الضحية للذبيحة..)

يا لهذا الوصف الأنيق الدقيق، الخفيف الكثيف.. الذي لا يجيده إلا شاعر أصبح الشعر هو لهجته اليومية، وصارت القافية هي تنهيدته المفترضة، وله من هذا الحفيف اللطيف ابيات كثيرة، منها :

قضى العمر وانا ارجيه يوفي بميسوره

كما بايعٍ يطلب حلاله من الشاري..

وفي الحب لا يمكن للعاشق ان يرتوي، فهو كلما شرب ازداد ظمأ، وكلما أُعطيَ.. ألحّ في طلب المزيد، فمن سقاه.. كان ينوي قتله مثلما يفعل "أهل الضحية تماما"... يهيجن ابن نوطان:

حصلت لي مشرب مايروي الظامي

لا ادركت خيره ولا افتكيت من شرّه!!

وفي كل هذا الشعر المنثور في تفاصيله الحب والشوق، والتوق إلى اللقاء، ونظرات متبادلة بين حبيبين تفرقهما الظروف.. وضلوع تتنهد بكل ما يرف من ذِكـْـر أو مايزف من بـِشـْـر ومايهف من عطر .. رغم كل ذلك، ظلت قصائد ذلك الزمن يمثلها ابن نوطان، قصائد طاهرة نظيفة تحكمها شهامة جيل نبيل يعرف "السلوم" ويقدر لها قدرها..

(لا شك السلوم العائلية لها عادات

وقو العزيمة والحيا ماتخليني)

والحديث يطول عندما نجول في قصائد الحب والمحبة لدى الشاعر، وأكثر من متعة الحديث عنها هو الحديث معها.. وكم لدي من كلام اضطر لاختصاره لأنني في مقام التقديم لا مقال السياحة النقدية.. وعند النظر إلى الجزء الآخر من قصائد الشاعر الخاصة بالثناء والرثاء والمديح، نجد طيب نفسه وكرم خلقه في إضفاء الصفات على أصحابها دون تزلف أو مواربة، فهو عندما يقول شعره ليوضح مفاخر شخص أو مآثر قبيلة فإنه يقول كل ذلك بطيبة نفس وحلو معشر تحسه نابضا في الأبيات، من فرط صدقه تشعره يتلألأ في نفسه وأنت تسمعه أو تقرأه.

يبقى أن أشيد بتنسيق هذا الديوان وتنضيده وترتيبه بالشكل الذي يعطي لقارئه صورة جمالية إضافية إلى جمالية الشعر، وأشكر الأخ أحمد بن عامر بن نوطان على ثقته التي منحها لي في أن أتشرف بخط هذه السطور عن الشاعر الراحل (وهي سطور قليلة اختزلتها من مشاعر كثيرة).

اللهم ارحم عبدك "عامر بن نوطان المري"، وتجاوز عنه، وجازه بالحسنات إحسانا وبالسيئات عفوا وغفرانا واسكنه نعيم الجنان مع عبادك الصالحين، فإنك انت الغني عنا وعنه ونحن الفقراء إليك الضعفاء بين يدك.

والصلاة والسلام على خير المرسلين وآخر دعوانا ان الحمدلله رب العالمين.

 

- علي المسعودي