كان الشاعر قد انتهى من مدح أحد الحكام فحصل على مكافأته..
لكنه يرى أنها قليلة مقابل الصفات
العظيمة التي أضفاها على حاكم لايحبه شعبه..
لذلك نصحته نفسه أن يتوجه إلى حاكم البلده المجاورة المشهود له بالحكمة
والعدل والكرم..
وقد فعل...
وعندما وصل وجد سبيل المقابلة سهلا يسيرا
وقف أمام هيبة الحاكم وأنشد شعره الذي بدا أقل شأنا من الشعر الذي ألقاه
آنفا بين يدي الحاكم السابق!
لذلك عندما انتهى لم يلحظ رد فعل إيجابي في ملامح الحاكم.. بل أحس بامتعاظه
وتبرمه،
فدفع الشاعر فضوله أن يسأل الحاكم عن القصيدة التي قيلت فيه.
قال الحاكم: لقد وصلنا خبر القصيدة التي قلتها في حاكم البلدة المجاورة...
وعلمنا أنك قلت فيه فوق ماقلت بنا رغم علمك بقدره الوضيع عند رعيّـته، ومنزلتنا العالية
عند شعبنا!
كان السؤال حاسما ومحرجا... والشاعر أسقط في يده!
لكن نباهة الشاعر أسعفته في الإجابة
إذ قال:
(صدق طويل العمر.. وسيدي يعلم أن الشعراء يجيدون في الكذب أكثر مما يجيدون
في الصدق)!
فأنجاه اعترافه الصادق بكذبه!
ورضي الحاكم أن يمدح بصدق خير من أن يمتدح بالزيف والزور.
وكان للنابغة الذبياني فضل افتتاح صفحة المديح المجاني في دفتر الشعر العربي..
ومنه انطلقت قصائد مديح الحكام والشيوخ والوجهاء لتأخذ حيزا كبيرا في مسيرة الأدب
ويفرد لها النقاد قواعد وأشكالا ومصنفات لم يعها كثير من الشعراء ولم يدركها كثير
من الحكام.. فالامير الذي احتج على قول ابن الجهم (أنت كالكلب..) أتى بعده الكثير
من الشعراء الذين مرروا على الأمراء قدحا مدفونا في مدح.
وكم جاء من الشعراء الذين أوقعهم جهلهم في شر أعمالهم... فرموا إلى القول
الحسن بينما ظهر منهم القول القبيح، ذلك أن مديح الحكام والنبلاء له أصول وفصول،
وربما ذلك ماجعل ابن خالويه يقذف الإناء في وجه المتنبي عندما قال لسيف الدوله
الحمداني:
(سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم)
بينما أثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على زهير بن أبي سلمى لأنه (يمدح
الرجال بما هم أهله)
ويروى أنه رضي الله عنه يستحسن أن يقدم الرجل بين يدي حاجته شعرا،
وقال عمر لبعض ولد هرم بن سنان: أنشدني بعض مدح زهيرٍ أباك،
فأنشده:
(هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
فلو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها.. فليتق الله سائله)
فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم القول.
قال ابن هرم: ونحن والله إن كنا
لنحسن له العطاء.
فقال عمر: قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم!
و قال عمر لكعب بن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرمٌ أباك؟
قال: أبلاها الدهر.
قال عمر: (لكن الحلل التي كساها
أبوك هرماً لم يبلها الدهر) .
... تلك حلل كعب بن زهير... أما حلل شعراء هذا الزمن فإن الكثير منها يشبه
المحارم الورقية.. تنتهي صلاحيتها بمجرد إخراجها من علبتها.
وأعرف شاعرا معروفا ومشهورا يردد دائما (كتبت اليوم قصيدة شحاذية)... وسوف
اسمعك قصيدة شحاذية
أو... عندي قصيدة شحاذية قديمة غيرت فيها شوي ووجهتها لفلان...
هكذا تحول مسمى الحب إلى إعجاب.. ثم أصبح الاعجاب ثناء،
ثم أصبح الثناء مديحا
وبمرور الزمن وعوامل التغيير أصبح المدح شحاذة!!
وقد تعددت أسباب مدح الشعراء للأمراء..
وكلها تتطلب شاعرا من طراز خاص يجيد مخاطبة الحكام والشيوخ والامراء
والوجهاء والأثرياء... يعي لباقة الخطاب ويعرف أصول المديح ويمدح الرجال بصفات
الرجال.. لأن إتاحة الفرصة لكل من سمي شاعرا أن ينشد في هذا المجال ليهرف بما لا
يعرف ماهو إلا إضاعة لهيبة الحكم ومهابة الشعر.. فقد رأينا شعراء يمدحون وسامة
الحاكم أو عطر ثيابه أو سيارته ومنهم من يبالغ في التمجيد حتى يصل مرحلة
الاستهزاء...
وكم رأينا وجهاء فرحين مستبشرين بالشاعر الذي يلقي الشعر أمامهم... والشعر
يقلل من قيمتهم...لأنهم لا يعرفون أبعاد الشعر الذي يسمعون!
وكم حضرنا حفلات مديح وددنا لو كان ابن خالويه حاضرا فيها،
وصدق الله تعالى: (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق